إميل أمين
كاتب مصري
TT

من البريكس إلى شنغهاي.. عالم جديد

مع نهاية الحرب الباردة التي شغلت العالم قرابة خمسة عقود بدا وكأن الولايات المتحدة قد انفردت فعلاً وقولاً بمقدرات العالم، ويومها تحدث الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب مشيرًا إلى مولد نظام عالمي جديد.
كان مقصد بوش الأول والأخير هو انفراد الولايات المتحدة بقمة العالم، والهيمنة المطلقة، والسيادة الأحادية، ولاحقًا بلور المحافظون الجدد ما عرف باستراتيجية القرن الأميركي، أي جعل المسافة بين واشنطن وبقية الأطراف الدولية المناوئة لها بعيدة، حتى لا يلحق أحد بأميركا مالئة الدنيا وشاغلة الناس، غير أن واقع الحال يخبرنا بأن هذه الأحلام الأميركية، والمطامع الإمبراطورية لم يقدر لها أن تستعلن أكثر من عقدين من الزمن، وها نحن نرى بالفعل مولد ما يشبه الحلف الآسيوي - اللاتيني - الأفريقي الجديد.
ما الذي يستدعي هذا الحديث في هذا التوقيت؟
في الحادي عشر من الشهر الماضي اختتمت أعمال قمة «بريكس» في مدينة أوفا العاصمة البشكيرية، حيث اتفق المشاركون، كما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على التنسيق الوثيق للمواقف في مسائل السياسة العالمية، ليس هذا فقط، بل إن المشاركين أبدوا وأكدوا استعدادهم للعمل بشكل حثيث من أجل الاستمرار قدمًا في إصلاح البنية المالية الاقتصادية العالمية، وتوسيع دور البلدان النامية في صندوق النقد الدولي. ما هي هذه الدول؟ وإلام تهدف؟
يضم تحالف البريكس كلاً من البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا، والمتابع المحقق والمدقق للشأن الدولي يدرك أن جميعها ذات أوزان استراتيجية دولية حقيقية، كما أن ناتجها القومي لا يستهان به على الصعيد العالمي، ما يجعلها تتحول على مرأى من الولايات المتحدة خاصة إلى منتدى على غرار «السبعة الكبار»، وإلى منظمة كاملة المواصفات.
هل كانت قمة البريكس الأخيرة نقطة تحول ومنعطفًا مهمًا في مسار المشهد الدولي المتسارعة خطاه بقوة في الأعوام الأخيرة؟
لعل الذين تابعوا أعمال القمة قد أدركوا أنها جاءت بمثابة وقفة دولية في وجه الاقتصاد الأميركي، ونبذًا لطريقة العقوبات الدولية الموجهة لموسكو تحديدًا، ما يعني أن المسألة ربما تجاوزت الحرب الباردة، وتقترب بدرجة أو بأخرى من الساخنة.
والشاهد أن الحديث عن قمة البريكس الأخيرة يطول، ولا يكمله سوى حديث متصل آخر عن قمة منظمة شنغهاي، التي عقدت في نفس العاصمة الآسيوية أوفا وفي توقيت تال مباشرة لقمة البريكس... هل جاءت قمة شنغهاي بدورها لتؤكد على سيرورة جديدة للعالم، بخلاف فكر اختطاف قوة قطبية بعينها لأحوال الكرة الأرضية؟
الثابت أن نجم القمتين كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أعلن في نهاية أعمال القمة أن المنظمة دخلت مرحلة جديدة في تاريخها... ماذا عن التغير الجوهري في كيان المنظمة الذي جرى على هامش اللقاء الأخير؟
جرى التغيير من خلال انضمام كل من الهند وباكستان إليها، علمًا بأن هذه الخطوة هي الأولى منذ تأسيس هذه المنظمة قبل أربعة عشر عامًا، ويمثل إضافة جوهرية للمنظمة وتحولاً واضحًا في خطوط التجمعات الدولية، انطلاقًا من الطاقة الديموغرافية والاقتصادية الضخمة لكل من الهند وباكستان. ما الحاصل الجمعي للقمتين؟
بالقطع هناك تحول دولي واضح، وبخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار العلاقات الجديدة والوليدة بين موسكو وبكين، لا سيما أن أحد مظاهر تغير حال ومآل هذه العلاقة يتصل بالمال والاقتصاد، فمن قبل كانت موسكو تخشى من الهيمنة الاقتصادية لبكين، لذلك عارضت اقتراح تطوير التكامل الاقتصادي، بما في ذلك مشروع بنك التنمية في هذه المنظمة، أما في القمة التي جرت مؤخرًا في مدينة أوفا، فقد اعتبر الرئيس بوتين التعاون في القطاع المصرفي واحدًا من أولويات المنظمة... هل هذه التحولات هي بالفعل «كابوس لخبراء الجيوسياسية الأميركية»؟
هذا ما يؤكد عليه يفغيني مينتشينكو مدير المعهد الدولي للتحليل السياسي، لا سيما أن منظمة شنغهاي سوف تشهد مزيدًا من التنسيق والتعاون داخل صفوفها، ناهيك عن مسائل الأمن، خاصة أن المناورات العسكرية المشتركة سوف تجري بصورة أكثر من السابق.
هل كانت عقوبات أوباما والأوروبيين على بوتين وروسيا هي السبب الرئيسي لهذه الكارثة الجيوسياسية الأميركية التي دفعت بوتين للارتماء في أحضان الصين؟
الجواب الشافي يتطلب منا قراءة فائقة الأهمية للاستراتيجية العسكرية الأميركية الجديدة التي أعلنها في الأول من يوليو (تموز) الماضي، الجنرال مارتن ديمبسي رئيس أركان الجيوش الأميركية، والتي وصفت بأنها إعلان حرب على العالم، ولا تملك أي نظرة للبناء ولا التنمية، ولا تذهب في طريق تعاون الشعوب من أجل الازدهار اقتصاديا، أو وقف الحروب وسيادة السلام، بل التأكيد على ضرورة الاستعداد لمواجهة ومجابهة القوى الدولية العالمية وفي المقدمة منها موسكو.
يرفض الآسيويون اليوم ومعهم غالبية شعوب العالم غرور القوة العسكرية الأميركية كأداة وحيدة لإنهاء المنازعات، وفي ذات الوقت يبين أحدث استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب أن 43 في المائة فقط من الأميركيين الذين تقل أعمارهم عن 30 سنة فخورون بأن يكونوا أميركيين، وهذا يعني أن المجتمع الأميركي يفقد الثقة في نفسه، وفي تقديم أميركا كمدينة فوق جبل.
من البريكس إلى شنغهاي استعلان لعالم جديد وليد، لا يعادي أميركا بالضرورة، بل يسعى لإيجاد طريق ثالث يحفظ كرامة البشر.