إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

انتفاضة الدمى

هذا برنامج يسخر من رئيس الجمهورية والوزراء والمشاهير، كل يوم، دون أن يفكر أحد منهم بمنعه أو ملاحقته أمام القضاء. إنه رهان المشرفين على «دمى الأخبار»، البرنامج التلفزيوني الذي تنتظره فرنسا في الثامنة إلا ربعًا مساء. وقد توقفت برامج ثقافية مهمة فلم يبد المشاهدون اعتراضًا. ولو جرى حجب برامج المحاورات السياسية لتنفس الناس الصعداء بعد أن ملوا اللغو الذي لا يعالج أزماتهم الداخلية. لكن أن يمتد المنع إلى برنامج «دمى الأخبار» فهو أمر جلل يستحق أن يستوقف الرؤساء والوزراء وأن تخصص له المانشيتات وعناوين النشرات.
برنامج يقترب عمره من الثلاثين سنة. يُبثّ على «كانال بلوس»، القناة الخاصة المشفرة التي تعرضه دون تشفير لكل المشاهدين. وهو يعتمد على دمى مصنوعة من رغوة «اللاتيكس»، على هيئة مشاهير السياسة والرياضة والفن، تتولى التعليق على الأحداث بشكل فكاهي وبسخرية ذات حدين، تنقلب عليها. ومع مرور السنوات وتعاقب الأحداث، صار البرنامج حديث الناس وزاد عدد الدمى التي ظهرت فيه على الثلاثمائة، بينها شخصيات عربية شغلت المشهد العام مثل عرفات وصدام حسين وبن لادن والقذافي وزين الدين زيدان. ومثل مزحة ثقيلة، فوجئ المشاهدون بقرار القناة وقف «دمى الأخبار» اعتبارًا من الموسم المقبل.
قامت القيامة. وتقدم عدد من أصحاب البرامج في القنوات المنافسة يطلبون تبني الدمى. واشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بردّة فعل بلغت أصداؤها الرئيس هولاند الذي يقوم بجولة أفريقية. ونقل عنه مرافقوه تعليقه بأن «برامج الفكاهة جزء من تراث التلفزيون». وهذا يعني أن الرئيس يتقبل «دمى الأخبار» مكرهًا لا بطلاً. فالدمية التي تؤدي دوره في البرنامج سميكة وساهية عما يجري في البلد. تروي الطرائف البايخة وتضحك عليها وحدها. أما رئيس الوزراء فركب الموجة، أيضًا، ودافع عما سماه «صلافة البرامج الساخرة التي نحتاجها جميعًا». أجل، إن المواطن يحتاجها للتنفيس عن ضيقه بأهل الحل والربط، لكن السياسي يعيش مع الصلافة كابوسًا يوميًا.
حتى ساركوزي، الرئيس السابق الذي كان هدفًا دائمًا لسخرية الدمى، خرج مستنكرًا ونافيًا أن تكون له يد في قرار وقف البرنامج. فلو ثبتت «التهمة» عليه فإنه سيضع نفسه في مرمى نيران المدافعين عن حرية التعبير. وهم جيش قوي العدة والعدد في فرنسا. إن ساركوزي يتقبل، مرغمًا، أن يكون دمية طولها شبران، كبيرة الأنف بشكل مبالغ فيه، تهتز هزات عصبية أثناء الحديث، على أن يكون «الديكتاتور» الذي حرم الفرنسيين من الدمى المسلية التي تزورهم كل مساء.
وحده الرئيس الأسبق شيراك عرف كيف يستغل البرنامج لصالحه رغم أن دميته دميمة وجاهلة. ففي المعركة التي قادته للرئاسة، كان معدو البرنامج يمعنون في السخرية منه ويضعون في يده تفاحة يقضم منها باستمرار. وفي لحظة دهاء، قرر شيراك أن يتخذ من التفاحة رمزًا لحملته الانتخابية. فاكهة فرنسية أصيلة تدخل في تصنيع الكثير من الحلويات والمشروبات الوطنية. وفيما بعد اعترف أحد أصحاب البرنامج بأنه وزملاءه هربوا كمية من الحشيش في تجويف دمية شيراك، أيام كان رئيسًا للجمهورية.
والضجة لم تهدأ بعد. وهناك جيش من الحرفيين يواصل صناعة «دمى الأخبار» والاهتمام بتدليلها وصيانتها. لكن هذه الكائنات الظريفة لا تمر دائمًا مرور الكرام. ومنها ما تسبب في أزمات داخلية أو مع دول الجوار. فالبرنامج أثار حفيظة الإسبان لأنه سخر من بطلهم لاعب كرة المضرب نادال وأشار إلى تعاطيه المنشطات. وكان على حكومة مدريد أن تتقدم باحتجاج رسمي وتهدد بنقل الأمر إلى القضاء. ثم نامت القضية. كيف يمكن لقاض أن يحاكم نكتة؟