وليد أبي مرشد
صحافيّ وكاتب وخبير اقتصادي لبنانيّ
TT

إن تنفع الذكرى..

من يذكر فلسطين اليوم؟
من يذكر أنها القضية التي شغلت جيلاً عربيًا كاملاً سفح دماء ذكية في سبيلها وانتظم في حركات «جهادية» تتخطى الولاءات الحزبية والانتماءات الطائفية والعصبيات المذهبية وتنادي بتحرير الأرض من مغتصبيها واستعادة حقوق أبنائها الأصليين.
مع أن عمر النضال القومي والسياسي لتحرير فلسطين لا يتجاوز العقود الستة إلا بقليل، يبدو أن العرب نسوا قضيتهم الأولى ونسوا معها مفهوم «الجهاد» القومي لتطغى على هموم مشرقهم المنكوب سيرة «جهاد» مختلف تماما: «جهاد» دعاة قطع الأعناق وسبي النساء وإزالة معالم التاريخ من أرض مهده.
وسط حرب يستعدي فيها «داعش» الإسلام – مفهومه المشوه للإسلام - على تراث العرب وهويتهم القومية قد لا يلام العرب على اضطرارهم لإشاحة أنظارهم عن قضيتهم الأولى.
ولكن، وربما على قاعدة «يأتيك بالأخبار من لم تزود»، ارتفع وسط هذا الصمت المطبق على القضية الفلسطينية صوت غير عربي، وفرنسي تحديدًا، ليذكرهم أن في عقر ديارهم قضية سياسية وإنسانية معلقة، لن تصبح منسية مهما تقادم الزمن عليها.
دعوة الرئيس فرنسوا هولاند لإعادة تحريك المساعي الدولية الهادفة إلى إيجاد تسوية مقبولة للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي قد تبدو وسط ظروف الشرق الأوسط الراهنة، وكأنها صرخة خارج زمانها. ولكنها دعوة من شأنها، إنْ قيض لها النجاح، تحقيق بعدين دبلوماسيين:
- إعادة تصحيح المسار السياسي لدول الشرق الأوسط بالتركيز على مشكلتها الأم، أي النزاع القومي الفلسطيني – الإسرائيلي، المصدر الدائم لحروب المنطقة وما أفرزته من تنظيمات متطرفة.
- إعادة «تلزيم» الولايات المتحدة مسؤولية العمل على الملف الأساسي لضمان استقرار الشرق الأوسط، خصوصًا أن ما يطرحه الرئيس الفرنسي هو إعادة إحياء التسوية الأميركية المرتكزة على حل الدولتين المتعايشتين بسلام داخل حدود نهائية معترف بها دوليًا. وتبرز جدية هذا التحرك على صعيدين:
- سعي الرئيس هولاند لتعيين بديل لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، على رأس اللجنة الرباعية (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا والأمم المتحدة) المولّجة متابعة التسوية السلمية للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، أملاً في إعادة تنشيطها.
- اشتراطه وضع جدول زمني محدد لإنجاز المفاوضات الجديدة انطلاقًا من اعتباره أنه كلما طال زمن التوصل إلى تسوية أصبحت أصعب منالاً وعرّضت المنطقة لحروب دورية.
حبذا لو تفلح المبادرة الفرنسية في استقطاب دعم أوروبي يعوض، وربما يستجلب إليها، الثقل الدبلوماسي الأميركي. إلا أن تسلم فرنسا زمام هذه المبادرة لا يخلو من إيجابيات تبرر تجاوز واشنطن ضجة «فضيحة التنصت» الراهنة ومؤازرتها ولو عن بعد.
في مقدمة هذه الإيجابيات قدرة المبادرة الفرنسية على تجاوز «العامل الشخصي» في علاقة الرئيس الأميركي باراك أوباما المتوترة برئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، والذي ساهم في عرقلة مسار المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية رغم عدد الزيارات المكوكية التي أجراها لهذه الغاية وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إلى تل أبيب.
وتصب في خانة الإيجابيات أيضًا علاقة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الجيدة مع كل من إسرائيل والسلطة الفلسطينية. (وقد سبق للرئيس هولاند أن زار شخصيًا إسرائيل وأراضي السلطة الفلسطينية عام 2013 برفقة وفد رسمي كبير).
إذا صح ما يعتقده بعض المحللين السياسيين من أن الرئيس أوباما ما زال راغبًا في تتويج ولايته الرئاسية بإنجاز «تاريخي» هو حل النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، قد تكون المبادرة الفرنسية فرصته الأخيرة للدخول على خط هذا النزاع.
إلا أن المسؤولية الأبرز في توفير مقومات الدعم الدبلوماسي للمبادرة الفرنسية وتعزيز مصداقيتها تقع على عاتق العواصم العربية المطالبة بتحرك دولي سريع يجيّش التأييد الدولي لها ويؤكد، في الوقت نفسه، أن القضية الفلسطينية لا يمر عليها الزمن مهما واجهت من تحديات.
والحديث عن مسؤولية العواصم العربية لا يعفي الجانب الفلسطيني من مسؤوليته التاريخية حيال قضيته الوطنية ومن واجب بات اليوم ملحًا، أي جسر الهوة السياسية القائمة بين فلسطينيي الضفة وفلسطينيي غزة..، فإذا كان يجوز الاعتراف بجميل فرنسا في إعادة تذكير العالم بقضية الشرق الأوسط الأولى، فما لا يجوز القبول به أن يسجل التاريخ يومًا أن الفلسطينيين أنفسهم أحبطوها.