د. الشيباني أبو همود
TT

سيناريو حل الأزمة الليبية

قدم المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة السيد برناندينو ليون، الأسبوع الماضي، في مدينة الصخيرات المغربية، رؤيته لحل المعضلة الليبية. الرؤية التي تضمنت ما بات يُعرف بمسودة الحوار الرابعة تمثل خلاصة النقاشات التي دارت في الجولات الماضية والتي امتدت لمدة تجاوزت الستة أشهر، كما تمثل ما يعتبره المجتمع الدولي حلاً منصفًا وعمليًا للصراع الليبي. مشروع الاتفاق هذا يهدفُ كما جاء على لسان وزير الخارجية الألماني، الذي احتضنت بلاده آخر جولات هذا الحوار، إلى تفادي تشظي ليبيا ووقوعها فريسة للجماعات المتشددة. هذا المشروع تبنى فلسفة تقوم على مشاركة كل الأطراف في السلطة وليس على تقاسم السلطة بين المتخاصمين، ولذلك اعتمد مشروع الاتفاق البرلمان المنتخب كسلطة تشريعية وحيدة جامعة لكل الأطراف وموكّل إليها دون غيرها مهمة سن القوانين في المرحلة الانتقالية التي ستمتد لمدة سنة قابلة للتجديد لمرة واحدة فقط، مع انتزاع كل الصلاحيات التنفيذية التي يتمتع بها البرلمان حاليًا وحصرها في يد حكومة التوافق الوطني التي يشترك الجميع في اختيار مجلس رئاستها وينفرد البرلمان دون غيره بصلاحية منحها الثقة. الهدف من هذا الفصل في رأيي هو الاستفادة من تجربة السنوات الأربع الماضية التي أثبتت أن ازدواجية السلطات كانت سببًا أساسيًا في تأزم الوضع في ليبيا، مع التذكير هنا بأن البرلمان تم انتخابه أصلاً منزوعًا من هذه الصلاحيات التنفيذية التي أعادها لنفسه بموجب تعديل دستوري قام به نتيجة لاستحالة انتخاب رئيس للبلاد في ظل الظروف الراهنة.
المسودة استحدثت مجلسًا استشاريًا يضم في غالبيته أعضاء المؤتمر الوطني السابق المستمرين منهم في عملهم حاليًا والمنقطعين الذين التزموا المسار الديمقراطي الذي أنتج البرلمان الحالي. هذا الجسم الاستشاري ليس مخّولاً بأي صلاحية تشريعية أو تنفيذية، وإنما بقدرة على تعطيل مقترحات الحكومة لمشاريع القوانين وتعطيل إقالة الحكومة من البرلمان، وهذا الأمر الذي يتطلب موافقة هذا المجلس بأغلبية الثلثين كضمانة تحتاج إليها حكومة التوافق حتى لا تكون عُرضة للابتزاز ولحسابات لا تحظى بإجماع وطني بشكل يجعلها سببًا كافيًا لإقالتها، كما حدث مع الحكومات السابقة.
الاتفاق المزمع عقده قريبًا يتناول مسائل كثيرة تتعلق بالشأن الأمني، خصوصًا مسألة انسحاب المجموعات المسلحة من المدن تمهيدًا لنزع سلاحها الذي شَكّل في فترة ما بعد الثورة العقبة الكأداء أمام قيام الدولة وفرض سلطة الحكومات المتعاقبة، كما يضع مشروع الاتفاق الجيش ولأول مرة منذ الثورة تحت سلطة الحكومة، وهو الوضع الطبيعي والمتعارف عليه عالميًا. إجمالاً وثيقة الاتفاق تعتبر بمثابة خريطة طريق للعملية السياسية في المرحلة الانتقالية بعد أن ثبت عدم فعالية ما تم اعتماده سابقًا من خرائط طريق لتنظيم مرحلة الانتقال الديمقراطي.
بكل تأكيد، فإن المسودة تبدو مُعقدة، ولكن ذلك ناجم عن تعقيدات المشهد الليبي ولحداثة التجربة الليبية ولعدم النضج السياسي لكثيرين من الفاعلين على الساحة الليبية اليوم. بالطبع توجد مخاوف مشروعة من أن يؤدي الاتفاق المعقّد إلى صعوبات في التنفيذ وإلى شلل في أداء مؤسسات الدولة، ولكنه يظل اتفاقًا مؤقتًا إلى حين صدور الدستور الدائم، وهو بالأساس لا يهدف إلى إيجاد صيغة مثالية لعمل المؤسسات، وإنما لإيقاف الحرب وتوحيد البلاد وإعادة الحياة إلى مؤسسات الدولة المتوقفة بسبب الانقسام السياسي.
صحيح أن مشروع الاتفاق يواجه حاليًا بعض المعارضة من أولئك الذين يرون أنفسهم مستفيدين من الوضع الراهن، والذين لا مصلحة لهم البتة في أي اتفاق يقضي إما على ما يعتبرونه مكاسب حققوها نتيجة الخلاف السياسي الحالي، وإما على طموحاتهم الشخصية غير المعززة بقدرات حقيقية تضمن تحقيقها في ظل أي حالة من حالات الوفاق الوطني في المجتمع، ومع ذلك يسود الشارع الليبي والكثير من المراقبين نوع من التفاؤل مصدره أولاً القناعة باستحالة الحسم العسكري لكلا الطرفين بعد أن أنهكتهما الحرب، وثانيًا الشعور العام بالخطرين المحدقين بالبلاد وهما الإرهاب المتمثل في تزايد نفوذ «داعش» في ليبيا وشبح الإفلاس الذي بات يؤرق ويهدد المواطن البسيط في مصدر قوته اليومي المعتمد بشكل كامل على المرتبات الحكومية، وثالثًا الدعم الدولي غير المحدود، الذي قلّ أن يحظى به أي ملف آخر، لمسيرة الحوار بشكل قد يجعل من الملف الليبي مثالاً لإمكانية التعاون المثمر بين جميع الدول الكبرى بما فيها روسيا والصين.
لقد وصل الليبيون ومعهم المجتمع الدولي الراعي للحوار إلى لحظة الحقيقة، وهي إما القبول بمبدأ المشاركة للجميع بشكل يحفظ للبلد وحدتها وسيادتها ويُعيد بناءها، وإما الدخول في حرب أهلية شاملة، كل ما يستطيع المجتمع الدولي عمله حيالها هو وضع المتسببين فيها من سياسيين وعسكريين في القوائم السوداء، وهو مطلب وطني قبل أن يكون خيارًا دوليًا، وذلك لوضع الجميع أمام مسؤولياتهم والاستعداد لتحمل تبعات أفعالهم. المؤكد هو أن الوضعين الليبي والإقليمي لا يحتملان فرضية فشل الحوار وهو ما يُفسر غياب أي خطة بديلة للحوار.
* سفير ليبيا لدى فرنسا