رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

الملك عبد الله بن عبد العزيز وصون الدين والدولة

جاء أمر الملك عبد الله بن عبد العزيز بمعاقبة الذين يذهبون للقتال خارج المملكة محققا لعدة أهداف: الاستمرار في مكافحة الإرهاب، وحق ولي الأمر في التصرف تجاه مواطني الدولة بما يحفظ أمنها وأمنهم، وإعطاء معنى ضابط لسيادة الدولة تجاه الخارج والداخل. بيد أنّ أهمّ ما يحقّقه الأمر الملكي إنما هو صَونُ الدين بصَون الدولة من جهة، والحيلولة دون دمار وحدة الدين؛ باستيلاء الانقسام والحرب الطائفية عليه.
لقد كانت ظاهرة القاعدة كلّها ومستتبعاتها ظاهرة انشقاقية حدثت في قلب الدين، ولذلك فإنهم سُرعان ما عادوا لمقاتلة الذين خرجوا عليهم وانشقّوا عنهم، لأنهم - كما قالوا - ما أرادوا ردّ الهجوم على الإسلام والمسلمين بمهاجمة الأعداء الخارجيين فقط؛ بل أرادوا أيضا «تصحيح مسار الدين» في دولنا ومجتمعاتنا. وكما أدّت العملية الأولى (= مهاجمة الولايات المتحدة) إلى نشوب الصراع على الإسلام؛ فإنّ العملية الثانية الملازِمة لها (= العودة للضرب في الداخل) فتحت جراحا في دولنا ومجتمعاتنا، وفي فهم الإسلام، وفي التعامل بين فئات المسلمين ومذهبهم.
لقد كان اتجاه العنيفين باسم الإسلام نحو الداخل إيذانا بإقدار كل الآخرين على «إعادة التوجيه» كما يحبون ويشتهون. وها نحن منذ ما قبل عام 2001 وإلى اليوم منهمكون بأحد الأمرين أو بالأمرين معا: مواجهة هجمات الخارج علينا دولا ومجتمعاتٍ ودينا بداعي ردّ عدوان الشبان العنيفين عليهم، أو مكافحة ارتدادات الانشقاقيين لمقاتلتنا بالداخل. وهذه المكافحة لا تتناول الإجراءات الأمنية فقط، بل تتناول ما هو أفدح وأعظَم: الابتزاز وتخريب السياسات والتوجهات، وهذه الأمور كلّها ناجمة عن «إعادة التوجيه»، وعن استخدام المنشقين هؤلاء في الإرغام على تعديل الاتجاه أو تغييره في الكثير من المسائل الصغيرة والكبيرة. وما أقصده بذلك ما شاع خلال السنوات العشر الماضية من تجنيدٍ أو استغلالٍ للمنشقين هؤلاء من جانب الكثير من الدول وأبرز الجهات المستغلة كما هو معروف النظام السوري وإيران، وبعض الدول الكبرى والوسطى. ولكي يكونَ واضحا ما نقصده بالانهماك في مكافحة الإرهاب، والانهماك في مكافحة إعادة توجيهه أو تصويبه نحو دواخلنا، نضرب مثلا بما يحدث في اليمن وسوريا الآن. ففي اليمن ما تزال الطائرات الأميركية من دون طيار تُغيرُ في شتّى النواحي لمقاتلة الإرهابيين الذين شاركوا في الهجوم عليها، أو واجهوها في أفغانستان والعراق. وفي سوريا يحدث الأمر المقابل أو الضرر الآخر للانشقاق، حيث أُعيد توجيه المنشقين لصالح الحرس الثوري الإيراني ولصالح بشار الأسد، بحيث أتوا من كلّ ناحية - فيما زعموا - لمقاتلة الأسد، فإذا بهم يقاتلون الشعب السوري والثائرين على الأسد، وعلى ماذا؟ على تطبيق الإسلام بالطريقة الصحيحة!
وحدث في الأعوام الأخيرة أمرٌ فظيعٌ ثالثٌ يتعلق بالتوجيه وإعادة التوجيه سبق للمملكة، ولمشيخة الأزهر وجهات علمية وإسلامية أُخرى، أنْ حذّرت منه: لقد أشعلت إيران متذرعة بهؤلاء الذين تستخدمهم حربا شيعية - سنية! أنشأت إيران تنظيمات طائفية مسلّحة أو غير مسلّحة في عشرات البلدان، ومنها خمسة أو ستة بلدان عربية. وتحت شعار الدين والمذهب راحت تستخدم هذه التنظيمات تارة باسم المقاومة، وطورا باسم المظلومية واستعادة الحقوق، وأخيرا وليس آخِرا لمقاتلة «التكفيريين»، نعم «التكفيريين»، الذين سبق لها أن أحضرتْهم إلى سوريا بالتعاون مع بشار الأسد لتوريطهم في مقاتلة الشعب السوري! وبذلك صارت إيران في العقد الأخير، وهي الداعية المتحمس للوحدة الإسلامية، مُثيرا مباشرا للحرب الشيعية - السنية على مستوى المنطقة والعالم. وباسم واضحٍ وعنوان صريح: مقاتلة هؤلاء لأنهم كفار، مثلما صار بعض هؤلاء المضلّلين والمخترقين يزعمون ذلك عن الشيعة الذين تهاجمهم باسم المذهب في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ولا أدري أين وأين أيضا!
لدينا (بل علينا!) حربٌ باسم مكافحة الإرهابيين الذين هاجموا العالم من خلال الهجوم على الولايات المتحدة وشقيقاتها الأوروبيات وغير الأوروبيات (مثل روسيا والصين والهند...). وعلينا حربٌ يقوم بها الانشقاقيون الذين أُعيد توجيههم لمقاتلتنا بالداخل. وهؤلاء في موجتهم الثانية (بعد مرحلة بن لادن) ما عادوا مأساة فقط، بل صاروا كاريكاتيرا وسخرية سوداء بأمتنا وديننا وأمننا وسُمعتنا، وأداة في أيدي عدة أطراف همّها إثارة الكراهية للعرب والإسلام، وقسمة الدول والمجتمعات. وعلينا أخيرا حربٌ ثالثة ما كنا ننتظرها على الإطلاق من طرف دُعاة الوحدة الإسلامية، هي الحرب الشيعية - السنية، التي أثارتْها إيران على العرب من الناحية الدينية أيضا. وإذا كنتُ أفهم مسألة مكافحة الإرهاب، ومسألة إعادة التوجيه (بأيدي أجهزة الاستخبارات)، فلستُ أفهمُ الفائدة الإيرانية من إثارة الحرب على السنة والعرب، لأنها لا تضرّ العرب وحسْب، بل تؤثّر في مستقبل العيش بين الناس في ديار العرب والمسلمين ولآمادٍ وآماد!
لقد تجلّت الحروب الثلاث - كما سبق القول - في السنوات الأخيرة بأجلى وضوح في اليمن وسوريا. فالولايات المتحدة تتحرك بطائراتها ضد «القاعدة». وإيران تتحرك بحوثييها ضد السنة والقبائل. وتتحرك أيضا مع الانفصاليين في جنوب اليمن. أما في سوريا فإنّ عشرات الجهات تتدخل لمساعدة بشار الأسد بأسماء مختلفة صريحة أو معمّاة. بيد أن أبرزها داعش والنصرة وحزب الله وأبو الفضل العباس وحماة السيدة زينب، والحوثيون (يسمون أنفسهم أنصار الله تيمنا بحزب الله!) ولا أدري مَنْ ومَنْ من ألقاب البهتان التي ما أنزل الله بها من سلطان.
ما العملُ مع هذا العبث الاستنزافي والجنوني، الذي يشتّت المجتمعات، ويضربُ الدين والإنسان والدولة؟ ينبغي بالطبع الاستمرار في دعم التغيير في سوريا بالدرجة الأولى، لأنّ فظائع هذا النظام هي التي ولّدت في السنوات الماضية كلّ الحروب التي اتخذت منها إيران - إلى جانب اليمن والعراق وربما لبنان - بيئة لها لنشر النفوذ، وإشاعة سياسات الابتزاز والمساومة وتبادُل المصالح، كأنما الدين لعبة، أو عبث. فالإرهابيون فاقدون للمنطق والاتجاه. أما إيران الدولة، فكيف يكون بوسعها الاعتقاد بالقدرة على الاستيلاء على العرب والإسلام والبلدان، باسم نُصرة التشيع في العراق، وعلمانية الأسد في سوريا، والمقاومة في لبنان، والانفصال في اليمن، والديمقراطية في البحرين، ومقاتلة فتح ومصر في غزة؟!
لقد صار الأمر مدمّرا على العرب في المجتمعات والدول، وقبل ذلك وبعده في الدين وإنسانية الإنسان. وقد تحركت المملكة منذ عقدٍ في كلّ اتجاهٍ للحماية والصَون وكفّ عادية الشر. وأمر الملك الأخير بشأن التصدي للعبث باسم الدين ولو بحجة مكافحة الأسد وإيران، يوجّه الشبان والكبار إلى أولوية صون الدين عن الخوض في مهاوي الفتنة والفرقة والشرذمة. وصَون الدولة عن أن تكون فكرتُها وممارساتُها مدعاة لاستجلاب الأخطار على الأوطان والبلدان.
إنها محنة وامتحانٌ كبير وهائل للعرب والإسلام. وقد قال الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ). وتصرّفُ خادم الحرمين هو مقتضى القيادة والمسؤولية.
قرأتُ في ديوانٍ جديدٍ لشاعرٍ اسمه إلياس لحود بالعامية اللبنانية:
الدم لونو تَعَب. الدم لونو عَرَب!
فيا ربّ لطفك!