نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

الإعلام في مصر

معظم الإعلاميين العرب، إما تعلموا في مصر، أو عملوا في منابرها الرائدة، أو تأثروا بصورة مباشرة بأعلامها الذين يسجلون في أيامنا هذه وإلى ما لا نهاية في كتاب الخالدين.
فإلى جانب الريادة في مجال الصحافة والإذاعة والتلفزيون، هنالك المكانة الجاذبة التي جعلت من «صوت العرب» في العصر الناصري الإذاعة الشعبية الأولى في عالمنا العربي، ومَن منا ينسى أنه، ومن مبنى واحد في «الشريفين» ثم ماسبيرو فيما بعد، انطلقت عشرات الموجات الإذاعية لتصل مصر بجميع شعوب العالم.
إلا أن انتكاسات عديدة أصابت إعلام مصر، مترافقة مع الانتكاسات السياسية التي أصابت مصر والعالم العربي.
وحتى في زمن الانتكاسات، ظل إعلام مصر هو الرائد؛ إذ كان بحجم الرهانات الشعبية على مصر بصفتها ذخرا استراتيجيا للأمة العربية.
إلا أن تراجعا مأساويا اعترى إعلام مصر، حين انفتح الفضاء وبلا قيود أمام كل راغب في إنتاج إعلام تلفزيوني وإذاعي حديث، فأمطر سماء مصر وابلا من إذاعات وتلفزيونات قوية ومبهرة، بينما ظل إعلام مصر سجين قيوده الرسمية في الشكل والمضمون، مما سجل تراجعا في انتشاره وتأثيره؛ ليس في مجاله العربي فقط، وإنما كذلك داخل مصر ذاتها.
غير أن ما حدث بعد «ثورة يناير»، هو انفتاح الفضاء المصري أمام إعلام حر، أظهر ما كان ممنوعا ظهوره من قبل، وصرنا نشاهد على الشاشة قنوات مبهرة، وبرامج جريئة، ووجبات انتقادية دسمة، ورأى العالم العربي كنوز مصر الإبداعية تقول ما عندها بحرية ومهنية عالية، وانفتحت القنوات والبرامج والمسلسلات، على نجوم العرب، الذين أخذوا فرصتهم في التألق والتكرس من على المنابر المصرية؛ إذ عاد من جديد ذلك الزمن الذي كانت فيه مصر هي قاعدة إطلاق الصواريخ الإبداعية في كل مجالات الثقافة والأدب والفن. لم نكن ونحن نتابع النجوم التي انطلقت من بيئة مصر، لندقق فيما إذا كان النجم مصريا أم سوريا أم لبنانيا، ولا جدال في أن ذلك هو ذروة ما بلغه التفاعل الحضاري والإبداعي العميق بين أبناء الأمة الواحدة.
لقد تجدد هذا الزمن واتسع مجال التفاعل المصري العربي، ولا أخال أن العجلة يمكن أن تعود ثانية إلى الوراء، بل إن مناخ الازدهار والتجدد قد فرض نفسه ليس في مصر وحدها؛ وإنما في كل مكان عربي تنشر فيه الظاهرة المصرية إبداعها.
غير أن أمرا لا يزال ناقصا إلى حد ما، ولا صعوبة تذكر في تعويضه.. إنه المنبر العربي من مصر والمنبر الإسلامي كذلك.. ما أعنيه بالضبط هو أن المعالجة الإعلامية الحالية في مصر مستغرقة، وبنسبة عالية جدا، في تغطية وتحليل أحداث مصر، ومعاركها الداخلية، وهذا أمر مفهوم تماما؛ بل وضروري لكسب معركة الخيارات المصرية، التي حسمت في الأساس وبقي أن تحسم بصورة نهائية. إلا أن هذا الاستغراق لا يمنع ويجب ألا يمنع إطلاق منبر عربي، ينطلق من مصر ويخاطب شعوب الأمة من أهم مكان يجمع ولا يفرق.. منبر تلفزيوني كل مذيعيه ومعدي برامجه من كل بلاد العرب، وكل أخباره ومعالجاته تغطي أحداث بلاد العرب وتلامس تطلعات، وحتى خلجات، المواطنين في كل بلد عربي.
لا خوف من منبر كهذا أن يغضب نظاما أو يسيء العلاقات معه، فحرية المعالجة وموضوعيتها أصبحت متفهمة في زمننا هذا، ولا أخال دولة عربية ستقطع علاقاتها مع أخرى لأن معالجة قضية ما تمت بصورة تعارض رغبات النظام.
إن مصر التي فتحت أبوابها وفضاءها واستوديوهاتها وأقمارها أمام الجميع، لقادرة على أن تُهدي الأمة العربية منبرا مدهشا، يجعل كل عربي في أي مكان يرى نفسه على المرآة المصرية. وحين يقول الأستاذ هيكل إن المرحلة المقبلة هي مرحلة الرهان المصري الحتمي على العرب والعروبة، فهذا برهان على حتمية ولادة هذا المنبر.