وليد أبي مرشد
صحافيّ وكاتب وخبير اقتصادي لبنانيّ
TT

شرق أوسط.. قديم

سقى الله عهدًا كان يسمح لرئيس أميركي مثل جورج بوش (الابن) بالتفكير في قيام شرق أوسط «جديد».. كائنًا ما كان الهدف السياسي - كي لا نقول الإمبريالي - منه.
اللهم ليس دفاعًا عن المشروع الأميركي، بل تحسرًا على زمن كان يتيح توقع الجديد، أي جديد، في الشرق الأوسط.
مشروع الشرق الأوسط الجديد وئد في المهد، وصار فصلاً ساقطًا من فصول الاحتلال الأميركي للعراق. إلا أن اللافت في مسار سقوطه أن السيطرة الأميركية التامة على القرار السياسي العراقي، بعد الاحتلال، كانت أعجز من أن تفتح كوة، ولو صورية، على أي «جديد» في العراق.. فكم بالحري الجديد الديمقراطي، مهما كانت دوافعه مريبة؟
خلافًا لما خططت له واشنطن، ساهم احتلال العراق في إحياء التيارات الرجعية في الشرق الأوسط بأكمله، مغلفة بغطاء مذهبي يصح القول إنه «صنع في العراق» بمؤازرة إيرانية. بدل شرق أوسط جديد، أورثنا الاحتلال الأميركي شرق أوسط قديمًا أصبح اليوم موغلاً في رجعيته.
إلا أن السؤال يبقى: هل يعود فشل «الجديد» في الشرق الأوسط إلى سوء التقدير، والتدبير، الأميركي وحده، أم أيضًا لتقليد شرق أوسطي يتمثل بنفور شعوبه من كل جديد ومبتكر وشاق لعمود الشعر العربي؟
عقد كامل انقضى على طرح إدارة الرئيس بوش مشروعها لشرق أوسط جديد.. ولا جديد تحت شمس المنطقة، لا بمبادرة خارجية ولا بمبادرة داخلية.
حتى «الربيع العربي»، الذي حركت تباشيره عام 2010 بوادر آمال انفتاح على «الجديد».. ذوت زهوره وهي بعد براعم، موحية بأن معظم دول الشرق الأوسط فاشلة في الحكم.. وشعوبها فاشلة في الثورة على الحكم. وعليه، لم يكن مستغربًا أن يصادر الرجعيون، وحتى التكفيريون، ربيع العرب، ويردوا الشرق الأوسط إلى أرذل العمر.
شرق أوسط اليوم تتحكم بمصيره تيارات تمتهن اجترار البائد من تاريخ العرب.. وتحاول إعادة تسويقه.
في إيران، لا يجد أنصار أكثر أنظمة المنطقة محافظة على القديم، حرجًا في إلباس قديمهم لباس «الثورة» والعمل على إقناع شعبهم بأن ما تعتبره الدول الديمقراطية نظامًا «رجعيًا» في عالم القرن الحادي والعشرين، هو أملهم الوحيد في مستقبل مزدهر.
أما في سوريا والعراق، فقد أعاد «السلجوقيون الجدد»، بالقوة، عقارب التاريخ إلى القرن الخامس الهجري، فدمروا المدن، ونهبوا الأرزاق، ولم تسلم من سبيهم آثار حضارة أي منطقة غزوها. وفيما لا يتورعون عن طرح أنفسهم كمنّة من السماء رسالتهم تخليص المنطقة من الشرك بالله ونشر التوحيد، لم تخرج ممارساتهم «المدنية»، حتى الآن، عن قطع الأعناق وسبي النساء. وعلى هدي السلف السلجوقي، لن يقصروا - في حال استقرار دولتهم المزعومة - في الحد من وجود المرأة خارج المنزل، وحبس النساء في بيوتهن بغض النظر عن مكانتهن أو مهنهن.
حتى لبنان، الدولة الشرق أوسطية التعددية الأكثر قابلية لاحتضان الجديد، وهنت مناعته حيال القديم، وظهرت بوادر التعلق به في تجميد آلية التشريع البرلمانية منذ سنة، وفي إقدام عدد من سياسييه على إعلان «توريث» زعاماتهم لأبنائهم وكأنهم يضمنون بذلك استمرارية القديم في عهدة الجيل الجديد.
ربما جاز القول (بالإذن من منظري حزب البعث) إننا نعيش «شرق أوسط واحدًا.. ذا رسالة محافظة».
ولكن، حتى في ظل مجتمعاته الرعوية بطبيعتها والأكثر محافظة على تقاليدها من المجتمعات الغربية، لم يتجاوز طابعه المحافظ حدود التمسك بالتقاليد بعيدًا عن التزمت الديني الأعمى، الأمر الذي تؤكده محافظة الأقليات المذهبية والإثنية على وجودها وطقوسها وسط كثافة سنية غالبة.. ما يسمح بتوقع تصادم آت بين مجتمعات توارثت عاداتها السمحة أبًا عن جد وتعايشت بتجانس واقعي مع الآخرين، ونظام أوتوقراطي متزمت، دخيل على كل تقاليدهم، لا يتطلع إلى التحكم بممارستهم اليومية لمعتقداتهم الدينية فحسب؛ بل إلى فرض سلوك ديني دخيل عليهم وتقييد حرياتهم الفردية إلى حد مصادرتها بالكامل.