حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

أفول دور بريطانيا!

تتصفح الصفحات الرئيسية للصحف في بريطانيا العظمى، وتطلع على عناوينها الرئيسية، فتصاب بالدهشة. ومنذ أسابيع، وبينما السجالات بين المرشحين الرئيسيين في الانتخابات البرلمانية، ورؤساء الأحزاب الكبيرة يتجادلون فيما بينهم، كان لا بد من أن تستغرب من «محلية» وبساطة المواضيع التي تستحوذ على الاهتمام الكبير في دولة لا تزال آثار إمبراطوريتها العظيمة مستمرة، وهي التي كانت تفتخر بأنها تتحكم في أهم الدول حول العالم، حتى إن الولايات المتحدة (إحدى ولاياتها السابقة) باتت القوة العظمى الأهم في العالم اليوم.
بريطانيا العظمى لم تعد كما كانت، فدورها «العالمي» انكمش إلى حد الهزال والضعف، وباتت قدرتها على التأثير أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها معدومة؛ سواء أكان ذلك على الصعيد الدولي، أو حتى على الصعيد الأوروبي، والتي هي جزء رئيسي من الاتحاد الأوروبي، ولكنها منذ تأسيس هذا الاتحاد، تتحفظ على المشاركة بشكل «كامل» فيه، فامتنعت عن تطبيق شروط التأشيرة الموحدة المعروفة باسم «اتفاقية شينغن»، وتحفظت وامتنعت عن المشاركة في العملة الأوروبية الموحدة المعروفة بـ«اليورو»، واحتفظت باستقلالية الجنيه الإسترليني.
هذا الانكماش يظهر بشكل جلي في تحليل قدرات القوة العسكرية البريطانية التي كانت ذات يوم تسيطر على العالم، خصوصا أسطولها البحري العملاق الذي كان ذراعها القوية الحقيقية في تحقيق وإنجاز تفوقها العسكري والاقتصادي بالقوة. اليوم تبلغ أحجام القدرات البشرية للجيش البريطاني بأكمله نحو الثمانين ألفا، ومن المتوقع أن ينخفض العدد خلال السنوات الخمس المقبلة إلى خمسين ألفا، وهذا يعني أن الجيش البريطاني سيكون بحجم قوة جهاز شرطة مدينة نيويورك الأميركية فقط! واليوم فعليًا لا تملك البحرية البريطانية أي حاملات طائرات عسكرية عاملة (لديها فقط حاملتان وهما قيد الصيانة الشاملة وإعادة التأهيل). أما عن طائراتها العسكرية المقاتلة النفاثة، فلقد تقاعدت طائراتها المعروفة باسم «هاريير» عن العمل.. تلك الطائرة التي كانت معروفة بقدرتها العسكرية على التحليق من مكانها، وهناك طائراتها العاملة حاليًا المعروفة باسم «تايفون» وهي متأخرة بجيل أو حتى جيلين عن مثيلاتها من المقاتلات الأميركية الحديثة المعروفة باسم «إف 22»، أو الروسية الصنع المعروفة باسم «سوخوي»، وحتى الفرنسية الصنع الحديثة المعروفة باسم «رافال»، فاليوم باتت صناعة المقاتلات البريطانية «متخلفة» عن غيرها، وكل ذلك بسبب تدهور الحال المالي والقطع في الميزانيات، وأوجه الصرف بسياسة تقشف واضحة. ويخطئ من يحكم على بريطانيا من واجهة لندن فقط، فهذا حتما سيكون حكمًا ناقصًا، لأنه بمجرد الخروج من العاصمة البريطانية المبهرة في كل شيء، تتعامل في بعض قراها ومدنها الأخرى بأسلوب هو الأقرب لدول العالم الثالث. لندن مدينة عالمية؛ بل هي «نبض» العولمة، فعدد سكانها اليوم يتنامى بشكل مذهل، حتى وصل إلى أن أكثر من ثلثهم هم من مواليد أماكن أخرى خارج بريطانيا نفسها. ولذلك ليس غريبًا أن تكون المواضيع الرئيسية التي تلقى الاهتمام العام في الإعلام البريطاني اليوم، هي الرعاية الصحية وتطوير أدائها المتردي، وهي قضية محلية بامتياز. اختفى الدور البريطاني تمامًا في قضايا العالم الكبرى، وتقلص الرأي البريطاني فيها، حتى إن هناك طرحًا متجددًا عن إعادة النظر في الدور البريطاني في تحالف الكومنولث، وهي الدول التي كانت تحت الحكم البريطاني ذات يوم واستمرت تحظى بعلاقات خاصة جدا مع الدولة البريطانية.
بريطانيا سلمت أوروبا لألمانيا، ومن بعدها إلى فرنسا، وسلمت الشأن العام العالمي إلى الولايات المتحدة، في دلالات بالغة الأهمية على «أفول» الدور البريطاني الذي قسم العالم بخرائطه إلى الواقع الذي نعيشه اليوم، وستكون لذلك الانحسار والأفول تبعات متلاحقة، فأي فراغ يحصل، سرعان ما يملأ ويعبأ من أطراف أخرى؛ فها هي دول جديدة تظهر لتسد الفراغ البريطاني بجوانبه الاقتصادية والسياسية والعسكرية والفكرية. المملكة المتحدة نفسها تتعرض للتآكل مع تجدد الحديث عن ضم آيرلندا الشمالية إلى الجزيرة الأم وانفصال اسكوتلندا المتجدد. بريطانيا التي قدمت للعالم الديمقراطية بمفهومها الحديث عبر وثيقة الـ«ماغنا كارتا» العريقة، وقدمت كثيرا من الإبهارات الاقتصادية والسياسية، أصبحت دولة عادية جدًا، وفي ذلك قراءة مهمة لتغيرات التاريخ، فهي على ما يبدو ستلحق بالبرتغال وإسبانيا وهولندا وفرنسا؛ تلك الدول التي كانت ذات يوم تحكم العالم.