ميشال أبو نجم
TT

أوروبا الخائفة من الهجرة وأنصاف الحلول

بإجماع قل نظيره، أقر وزراء الخارجية والدفاع في الاتحاد الأوروبي بعد ظهر الاثنين «خطة عمل» لكسر تدفق المهاجرين من شواطئ ليبيا إلى الشواطئ الأوروبية، وخصوصا إلى إيطاليا (صقلية) وبدرجة أقل إلى اليونان ومالطا وقبرص... وفي نظر الأوروبيين، فإن عملية كهذه ستمنع تكرار مأساة غرق نحو 800 شخص دفعة واحدة في مياه المتوسط الشهر الماضي، وقد تريح ضمائر الذين يرون أنه يتوجب على الـ28 بلدا أوروبيا ألا يغمضوا أعينهم ويتصرفوا كأنهم لا يرون المأساة الإنسانية الجارية أمام الأبواب الأوروبية.
الأوروبيون يريدون استخدام القوة البحرية والجوية لحرمان المتاجرين بحياة البؤساء من الأفارقة والعرب وغيرهم من الساعين للفردوس الأوروبي من «الوسائل» التي يستخدمونها، أي المراكب غير الشرعية بمختلف أنواعها والتي لا تحمل علم أية دولة من الدول. ويريد الأوروبيون «غطاء شرعيا» من الأمم المتحدة على شاكلة قرار تحت الفصل السابع يجيز لهم استخدام القوة المسلحة لتوقيف «المهربين» وإغراق مراكبهم ليس فقط في المياه الدولية ولكن أيضا في المياه الإقليمية الليبية بالتفاهم مع «السلطات» في هذا البلد.
من حيث المبدأ، لا يمكن حرمان الأوروبيين من حقهم في تقرير من يدخل إلى أراضي الاتحاد الأوروبي ومن لا يدخل إليها، إذ إن ذلك أمر سيادي لا يجادل فيه اثنان، لكن الخطة الأوروبية تثير مجموعة من الأسئلة التفصيلية والأساسية وهي في المحصلة تدفع إلى الاعتقاد بأن ما تريده أوروبا ليس إيجاد حل لمسألة الهجرة غير المشروعة بقدر ما هو منع المهاجرين من الوصول إليها والعمل بكل الوسائل على إبقائهم حيث هم.
أول الأسئلة يتناول نجاعة الخطة الأوروبية، إذ إنه من الواضح للجميع أن الرقابة الجوية والبحرية والتدخل العسكري لن يجفف تيار الهجرة غير الشرعية ولن يكون في مقدور الأوروبيين أن يمنعوا كل المراكب من الوصول إلى شواطئهم بسبب المسافة القصيرة الفاصلة بين الشواطئ المغاربية واليابسة الأوروبية. فالهجرة كانت موجودة انطلاقا من الشواطئ الليبية وكذلك من تونس والمغرب منذ ما قبل عام 2011 وتحديدا من ليبيا رغم الوعود التي أغدقها العقيد القذافي وقتها على السلطات الإيطالية التي وفرت عدة مليارات لإغرائه بالتعاون.
أبعد من ذلك، كيف يمكن للأوروبيين أن يعتقدوا للحظة واحدة أن طالب الهجرة الذي يهرب من الحروب والبؤس والاضطهاد والذي يعاني المشقات والمخاطر قبل الوصول إلى الشواطئ المتوسطية الأفريقية يمكن أن يتخلى عن حلم الوصول إلى أوروبا، التي ترى فيها مخيلته المعذبة «الألدورادو» المعاصرة؟ شهادات الناجين من الغرق يمكن أن تكون مفيدة لمن يريد الإفادة منها. ألا يقول هؤلاء إنهم عملوا لشهور وربما لسنوات لكي يوفروا المبالغ المالية المرتفعة التي يفرضها المهربون سعيا وراء حلم بلوغ «القارة السعيدة»؟ وباختصار شديد، من أراد أن يرى فلن يفوته أن الهجرة ستستمر ما دام هناك فقر وحروب وغياب للضوء في آخر النفق. وبالتالي فإن معالجة مأساة الهجرة لن تكون ناجعة ما لم تتعرض للأسباب الحقيقية التي تدفع الناس لركوب مخاطرها. ولذا فإن الحل هو في مساعدة البلدان «المصدرة» للهجرات غير المشروعة على توفير الاستقرار والخروج من خانة الفقر المدقع وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتوفير فرص عمل غيرها من مقومات الحياة الكريمة. لكنّ عملا من هذا النوع لا يتحقق إلا على المدى البعيد، وخصوصا أنه يفترض استثمارات ومساعدات ووضع حد للفساد وللحكومات. والواضح أن أوروبا الهشة اقتصاديا لا تريد اليوم الغرف من ميزانياتها وتفضل حلولا أقل كلفة وأسرع «إنتاجية» وأكثر تلبية لما يريده الرأي العام في هذه البلدان.
لا تتوقف المحاذير والتساؤلات عند هذا الحد، فمن الأسئلة «العملية»، حدود التدخل الأوروبي العسكري، إذ إن الأوروبيين يريدون، بالتفاهم مع السلطات الليبية الضوء الأخضر للتدخل في المياه الإقليمية لليبيا، لكن لا نعلم بعد مع أية حكومة سيتعاملون، هل مع الحكومة الشرعية التي يعترفون بها في طبرق أم مع الحكومة «غير الشرعية» الموجودة في طرابلس أم مع الاثنتين معا؟ وهل تقبل «الشرعية» إعطاء بعض الشرعية للحكومة المنافسة عندما تتحول إلى «محاور» للأوروبيين؟ ثم أين يتوقف التدخل الأوروبي؟ عند الشاطئ أم سيريد الأوروبيون الباحثون عن تفكيك شبكات المهربين وضع اليد عليهم داخل الأراضي الليبية؟
سؤالان إضافيان يفرضان نفسهما: الأول، ماذا سيكون مصير المهاجرين غير الشرعيين الذين سيقعون في أيدي السفن الأوروبية؟ هل سيعادون إلى الشواطئ الليبية؟ هل ثمة من سيقبل استقبالهم من بين البلدان الأوروبية؟ علما بأن رئيسي حكومتي فرنسا مانويل فالس وبريطانيا ديفيد كاميرون رفضا خطة رئيس الاتحاد الأوروبي القاضية بتوزيع المهاجرين وفق حصص تحتسب بالنسبة إلى عدد السكان وحالة الاقتصاد... والسؤال الثاني يتناول مصير المهربين الملقى القبض عليهم: ماذا سيكون مصيرهم؟ من سيحاكمهم؟ ووفق أية قوانين؟
أسئلة كثيرة وإجابات قليلة، أقله في هذه المرحلة التي تسبق تقديم الأوروبيين مشروع قرار إلى مجلس الأمن، لكن السرعة التي نجح خلالها هؤلاء في الاتفاق على خطة عمل فيها ما يدهش، خصوصا إذا نظرنا إلى بطء آلية اتخاذ القرار والحاجة التقليدية إلى مشاورات لا تنتهي بين البلدان الـ28. ربما السبب أن أوروبا لم تعد تجد مفرا من التحرك، ليس فقط لتنحية تهمة اللامبالاة ولكن أيضا لأن المواطن الأوروبي الخائف على هويته ووظيفته وضمانه الاجتماعي من الوافدين إليه بمئات الآلاف لم يعد يقبل أن تقف السلطات عاجزة عن الحراك، لكن هل هذا هو الحراك المطلوب والناجع؟ بالطبع الجواب لا يمكن أن يكون إلا سلبيا.