أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

أميركا وجمهورية الفستق

استكمالا لمقالة الأسبوع الماضي حول أميركا والموقف الودي الجديد من إيران، أحاول أن أراجع ما قاله الرئيس الأميركي باراك أوباما في مقابلته الأخيرة مع الكاتب توماس فريدمان، إذ كان صريحا بنقده دول الخليج التي في رأيه تهمل إصلاحاتها الداخلية وتهوّل من قلقها تجاه النووي الإيراني.
هذا الانتقاد جاء من تداعيات نشوى توقيع الاتفاق النووي الذي تكفّر فيه أميركا وأوروبا عن أخطائها التاريخية بالسماح لإيران ببناء ترسانة حربية متطورة. المشروع النووي لم يبدأ بكشف وجود منشأة أصفهان قبل عشر سنوات، بل كانت مراحل شاقة من تجميع لقطع الفولاذ وأجهزة الحواسيب والمواد الخام بدأت منذ انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية عام 1988، والمصدر الرئيسي لهذه القطع لم يكن الصين أو روسيا، بل أميركا وأوروبا، بضغط من لوبي رجال الصناعة، الذين كانوا يبررون تصدير غير معلن لأجهزة تصنيع معاجين المتفجرات بأنها لتحضير زبدة الفستق.
بعيدا عن الموضوع النووي، وبالحديث عن الداخل، عندما اختار الإيرانيون محمد خاتمي للرئاسة في أواسط التسعينات الماضية، كانوا يرجون تحقق ما أغرقهم به من حديث عن الإصلاحات وتأسيس لدولة مدنية. الرجل كان صادقا في نياته الإصلاحية، وكان يستهدف إنهاء العقوبات الاقتصادية الأميركية التي أضرت ببلاده، لكن المشكلة أنه كان واجهة بلا ظهر، لأن خطابه يتضاد مع أدبيات الثورة الإسلامية وآيديولوجية مرشدها الأعلى. كان يعلن تأييده لحرية الإعلام من جهة، في وقت كانت المخابرات تسجن الكتاب والمحررين وتهشم أصابعهم.
في عام 1998 اشتعلت المواجهات في الشارع بين أنصار خاتمي ومجاميع مسلحة عرفوا باسم أنصار حزب الله ادعت أنها تحمي قيم الثورة الإسلامية من الخطر المحدق القادم مع أفكار الإصلاحيين وإقبال الشباب عليها. كانت تقتحم المحاضرات والندوات الطلابية وتعتدي على النساء في الشوارع، كانوا فعليا كما وصفهم شباب جامعة طهران بقطاع الطرق، اتضح لاحقا أنهم من المخابرات ويعملون بتوجيه من المرشد الأعلى. كان على خاتمي أن يقرر، هل يذعن ويعود إلى مشية الغراب التي يمشيها المرشد، أم يكمل تقليد الحمامة.
ما حسم المسألة هو اغتيال المخابرات الإيرانية لزعيم حزب «الشعب» المعارض «داريوش فروهر» وزوجته بطريقة بشعة في منزلهما، ومع انتشار هذا الخبر جن جنون الشارع، حاول خاتمي تهدئة الغاضبين بتشكيل لجنة تحقيق، ولكن انتهت أعمال اللجنة بأن تم تخيير خاتمي إما أن يخرج ليقول إن القتلة مجموعة مجهولة خارجة عن القانون أو ينتهي أمره بانقلاب. اختار خاتمي النكوص وبدأ بتهديد المعارضين. وفي صيف عام 1999 اقتحم أنصار حزب الله سكن طلاب جامعة طهران، نفذوا اغتيالات في القيادات الطلابية المعارضة، أحرقوا وأتلفوا المرافق، وقذفوا ببعض الطلبة من الأسطح. أذيع خبر الجريمة في كل وسائل الإعلام العالمية المعروفة، مدعومة بصور التقطها بعض الطلبة. اشتعلت كل المدن الرئيسية في إيران بمظاهرات ضد رجال الدين المتشددين بعد المجزرة، وقامت مظاهرات منددة في مدن أميركية وأوروبية. كل العالم شهد انطلاق أول احتجاجات ضد الثورة الإسلامية، قابلها خاتمي بمظاهرة مضادة وإعلان بأن هؤلاء الداعين للديمقرطية هم أعداء للثورة. وكان حسن روحاني مستشار خاتمي، الرئيس الحالي، إحدى أهم أدوات البطش ضد المتظاهرين. انتهت الثورة بقمعها، سجن المئات وعذب وقتل العشرات، وبعضهم استطاع الفرار خارج إيران ومنهم من لا يزال حتى هذه اللحظة في سجن «إيفين» الشهير. خرج الرئيس الأميركي بيل كلينتون بعد يومين نافيا صلة بلاده باندلاع المظاهرات، ثم رفع الحظر عن السلع الغذائية والطبية، توددا، لاستئناف العلاقات بين البلدين.
السيناريو يتكرر، التاريخ فعلا يعيد نفسه بشكل مثير.
ظل الداخل الإيراني مقموعا، كاظما غيظه عشر سنوات، حتى استفزه تزوير أحمدي نجاد لنتائج الانتخابات عام 2009، فخرج الإيرانيون في ثورتهم الخضراء بنفس المطلب؛ الخلاص من حكم الملالي. ولقيت الثورة ما لقيته سابقتها، وكما كان شعار ثورة التسعينات الذي تصدر أغلفة الصحف العالمية قميصا ملطخا بالدم لأحد الضحايا، كانت «نداء سلطاني» الشابة التي نزفت من أنفها وأذنيها وفمها حتى ماتت من جراء طلقة رصاص من ميليشيا الباسيج، رمزا للثورة الجديدة. بعدها صرح باراك أوباما بأن لا علاقة لبلاده بالثورة. واليوم يقدم مكافأته هو الآخر لإيران بأن يمتدح نظامها ويرفع عنها العقوبات الاقتصادية.
لم يكن الداخل الإيراني في يوم من الأيام محط انتقاد من واشنطن، أو سببا في اتخاذها موقفا ضد طهران.
لكن، إن كان ولا بد من حديث عن الداخل، فهناك دولة على ارتباط ملزم بأميركا، اسمها العراق، واحدة من ضحايا فشل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، هي الوزر الذي على أوباما أن يتحمله. هل العراق الذي نراه اليوم هو الدولة الثرية بمواردها ومقدراتها التي نعرفها؟ لا تبدو مختلفة في مستوى أمنها وشكل مدنها وشوارعها وكدر عيش أهلها، عن اليمن الفقير، هذا هو الداخل العراقي بعد 12 عاما من الغزو الأميركي! أربعة آلاف عائلة عراقية من الأنبار مخيرة اليوم بين ثلاثة خيارات مريرة؛ إما أن تظل في الأنبار فتُقتل بيد «داعش» السنية أو ميليشيا الحشد الشعبي الشيعية، أو تموت من العطش والإجهاد الحراري على حدود بغداد لأنها ممنوعة من دخول العاصمة بقرار حكومي، أو أن يتخذوا سجن أبو غريب ملجأ كما اقترحت الحكومة، السجن الذي يعرفه أوباما جيدا. هذه مسؤوليتك يا سيادة الرئيس وليس الداخل الخليجي.
رغم حاجتنا القائمة التي لا ينكرها أحد إلى إصلاحات داخلية كبيرة في الخليج، فإن ذلك لا يعني أن نرتخي أمام خطر دولة مهووسة بالحروب، آيديولوجية الحكم فيها قائمة على خزعبلات دينية. والربيع العربي الذي عبر فوق الأجواء الخليجية بهدوء كان اختبارا كافيا للداخل الخليجي.
في إحصائية حديثة، تجاوزت البطالة في إيران 40 في المائة، مقابل 11 في المائة في الخليج، والأهم أن 70 في المائة من الإيرانيين ولدوا بعد ثورة الخميني، أي أنهم لا يعرفون سوى نظام الملالي الفاشي والحروب بالوكالة خارج حدود إيران التي أفقرتهم، في حين أن 60 في المائة من الخليجيين لم يشهدوا حرب الخليج الثانية، حربهم الأولى هي «عاصفة الحزم» التي لا يشعرون بها ولا يعلمون تفاصيلها إن لم يديروا محطات التلفزة الإخبارية.