سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

سوء تقدير فيلسوف الخراب

حان الوقت كي تستفيق أوروبا من أوهامها. فالقرارات الأمنية التي اتخذت على مستوى رؤساء الاتحاد الأوروبي في اجتماعهم على عجل يوم الخميس الماضي، للحد من مأساة الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط، والتي راح ضحيتها 1300 شخص في أسبوع واحد، لن تغير كثيرًا من واقع الطوفان البشري الهائج، الذي يضرب، يوميًا، سواحلها. تريد أوروبا أن تحمي ديموغرافيتها، وازدهارها ونقاءها، دون أن تنظر، أبعد من أرنبة أنفها. هذا لا يعني أن العرب أبرياء من إشعال نار جهنم التي تكوي أرواحهم وتفتك بأولادهم. لكن الغرب كان مشاركًا نشطًا في إضرام الفوضى. إزاحة القذافي بالأسلوب التدميري الذي اتبع، تسبب بتحطيم كامل لبنية الدولة الليبية، بطريقة لا تختلف كثيرًا عما ارتكبته أميركا في العراق، غير أن التهاوي هذه المرة كان أسرع وأفظع. فهل يتكرر السيناريو المتنقل من بلد عربي إلى آخر، بمحض الصدفة، أو بفعل الغباء، لدول بات كل ما فيها ذكيًا، إلا السياسات الخارجية؟ فالمسؤولية الأوروبية كبيرة في إريتريا أيضًا، التي منها يأتي عدد وافر من ركاب الزوارق الانتحارية. فالجميع غض الطرف عن النظام هناك، لا بل تمت مساعدته، قبل الانقلاب عليه.
أمام تفاقم ورطة «قوارب الموت» لا يملك الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند إلا أن يعاتب سابقه نيكولا ساركوزي على الدور الرديء والمتسرع الذي لعبه في ليبيا، معتبرًا أن ما يجب فعله الآن هو «إصلاح لأخطاء ارتكبت بالأمس». وإن كان بمقدور الأميركيين أن يقصفوا بطائراتهم ثم يحتموا وراء آلاف الأميال من مياه المحيطات، فإن إيطاليا على مرمى حجر من الشمال الأفريقي، وفرنسا ليست بعيدة، بالنسبة لمن فقدوا كل أمل في الحياة وصار الموت أرحم لهم.
صحيح أن «فرنسا لا تستطيع أن تستقبل كل بؤس العالم»، على ما كان يقول رئيس الوزراء الأسبق ميشال روكار، لكن السياسة المتوسطية التي طالما تغنت بها، مدعية معرفة أخطار زراعة اليأس على الضفة المقابلة لها، بقيت مشوبة بالنفاق والمراوغة. وإن لم تكن فرنسا سببًا وحيدًا في المأساة، فإن الغرب بمجمله لم يكن حسن النية، ولا طيب الطوية، لا قبل الربيع الأسود، حيث هادن حين كانت مصالحه تقتضي ذلك، ولا «بعد خراب مالطا».
ومن يحمل راية حقوق الإنسان، وينظّر بالتحضر لا يحاسب كمن يعترف بأنه في آخر السلم. فأحد لم ينس بعد صور الفيلسوف الفرنسي ذي الميول الصهيونية، برنار هنري ليفي، وهو في ليبيا يبشر بالحرية الآتية، وعندما كان يستعجل التدخل العسكري، لكنه لا يجد الآن أفضل من عبارة «إن ثمرة الحرية، طعمها مرّ».
«قوارب الموت» ليست وليدة الساعة. منذ سنوات وأبناء الضفة الجنوبية يموتون غرقًا، وهم يحاولون اقتحام القلعة الأوروبية المحصنة. كانت أوروبا تدرك جيدًا أن سياساتها المشوبة بالاستغلال الآني الرخيص، لن تنجب سوى المزيد من البؤس والفقر في الدول المقابلة لها. تصاعد عدد الراغبين في بلوغ الفردوس الأوروبي، وارتفاعه 30 في المائة عن العام الماضي، ليس مفاجأة لأحد. بقيت المراهنة، دائمًا، على مناعة السد الحدودي وفولاذيته، وصعوبة اختراقه. اكتشف الأغنياء أن الجوع واليأس يفعلان ما لم يكن بحسبانهم. نمت عصابات التهريب واكتسبت مهارات جديدة. ليس البحر وحده هو الذي يحمل أمواج الفارين من الجحيم، الحدود البرية للاتحاد هي أيضًا تنتهك من آلاف الهاربين. وحدها إيطاليا تحملت العبء الأكبر، والتكلفة الأغلى، وبقيت الدول الأوروبية الأخرى تحاول التنصل والتهرب، وتكتفي سفنها بحماية حدودها البحرية وإغاثة بعض الغرقى. «وصمة عار» على جبين أوروبا أنها غضت الطرف عن آلاف الهالكين الذين ابتلعهم البحر. لم تكن الجهود على قدر المسؤولية، ولا متناسبة مع شعارات حضارية. بعد طول تمنّع، قرر الأوروبيون تخصيص تسعة ملايين دولار شهريًا، لمكافحة تهريب البشر، أي 108 ملايين دولار في السنة، بينما لا يدفع أكثر من فتات لمساعدة النازحين الذين تركوا ديارهم إلى دول مجاورة، لتأمين بقائهم حيث هم، دون اضطرارهم للبحث عن المستحيل.
تستنفر أوروبا كل طاقاتها، من البواخر إلى طائرات الهليكوبتر، ولن تتردد في الطلب من مجلس الأمن أن يسمح لها بعمليات محدودة لضرب السفن التي تستخدم للتهريب، فالوضع خطر وقد يهدد الأمن الداخلي. تقارير تتحدث عن دور لـ«داعش» قد يكون رئيسيًا في تنظيم نزوح هذه الأسراب البشرية، وتشجيعها على عبور البحر، فمن ناحية تؤمن له مداخيل وفيرة، ومن ناحية أخرى، يعمل التنظيم على دس عناصره بين الهاربين الذين يصلون إلى الشواطئ الإيطالية، دون أوراق ثبوتية. فتهديد التنظيم للدول الأوروبية في الفترة الأخيرة، يعتقد أنه لم يأت عبثًا، بل يستند إلى معطيات جديدة.
أوروبا في أزمة، وسمعتها على المحك، واليمين المتطرف يثبت لناخبيه باستمرار أنه كان على حق، ويكسب النقاط، فيما برنارد هنري ليفي لا يزال مصرًا على أن الوضع في ليبيا أفضل من ذي قبل، ولا يعترف بأي سوء تقدير، على الأقل في ما يتعلق بمصلحة بلاده. لا بل إن فيلسوف الخراب، مرتاح الضمير. فالمتوسط صار مقبرة، في رأيه، بسبب أي شيء إلا الفوضى في ليبيا التي منها ينطلق 90 في المائة من «زوارق الموت». المشكلة عند ليفي هي في سوريا وإريتريا والصومال والسودان، التي يأتي منها النازحون، وليست في السواحل الليبية الغارقة في الفوضى وعصابات الاتجار بالبشر. حقًا ثمة في هذا العالم وقاحة لا تصدق.