إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

الكتابة بالمشرط

«مالها ومال الجراحة؟ وما بالك وهي جراحات تخصصية تحتاج إلى التركيز والعناية البالغة؟». لا يضيع الكاتب المصري إيمان يحيى وقته في تدبيج مقدمات تمهيدية.. إنه يدخل، منذ الصفحة الثانية، في موضوع روايته الصادرة عن دار «الثقافة الجديدة» في القاهرة، ويحدد ملامح شخصية الأستاذ الدكتور عمار النقلي.. يرسم مظهره الخارجي الذي يشي باتجاهه الفكري والعقائدي.. إنه رئيس القسم، ومشكلته هي الدكتورة سعاد، الطبيبة المقيمة التي تحضّر للماجستير.. إنها «كالزائدة الدودية» في قسم الجراحات التخصصية المؤلف من الرجال، ووجودها خطأ يجب تصحيحه «قبل أن تستفحل الفوضى والإباحية».
المؤلف، إيمان يحيى، ناشط سياسي يعمل أستاذا للجراحة في المستشفيات الجامعية، أي أنه واحد من أولئك الأطباء الذين أصابتهم لوثة الأدب فأثروا المكتبة العربية برواياتهم وأشعارهم، وهو في روايته التي اختار لها عنوان «الكتابة بالمشرط» يكتب عما عرف واختبر، ويمسك المشرط ليشرّح جسد الواقع الذي يعيش فيه ويعلن وقوفه مع الذين لا حول لهم؛ الدكتور أبانوب الذي يتجاهل زملاؤه اسمه القبطي وينادونه سامح.. والدكتورة سعاد التي تهان لأنها امرأة لا تقبل أن تخضع لرغبات الطامعين فيها.
رواية غاضبة مثل صرخة في وجه مؤسسة علمية راسخة، تتجاوزها لتصل إلى بلدان صارت مسرحًا لممارسات سوريالية. فساد يقرض، كالجرذ، حوافي القيم النبيلة التي يتعهد خريجو كليات الطب أن يلتزموا بها وهم يؤدون قسم «أبوقراط». أطباء مبجلون يبيعون العمليات الجراحية لمساعدين أصغر منهم. جراح يفتح بطن مريض ويتركه ساعة تحت التخدير ويذهب للصلاة. تجارب قاتلة على مرضى مساكين. رشى من شركات الأدوية. سفرات عائلية سياحية بتذاكر الدرجة الأولى تدفعها مصانع الأجهزة الطبية. رئيس جامعة يستحوذ زورًا على شقق من جمعية إسكان ليبيعها بأضعاف ثمنها.
مقابل شخصية عامر النقلي، تقف شخصية الدكتور الشربيني، الضمير الذي لا بد منه لكي يستقيم الصراع في الرواية. إن الخميس هو يوم «المرور العظيم» على عنابر المرضى. يكشف الشربيني الشاش والقطن المتقيح بالصديد عن جرح متعفن ويلتفت نحو الأطباء المقيمين: «أنتم دكاترة والا جزارين؟ ده حتى الجزار بينضّف الدم اللي في تلاجة اللحمة عشان ما تنتّنش». أما في غرفة العمليات، فإنه معلم مجرّب وقدير يشرح لطلابه كيف يكون التعامل مع اللحم الحي.. «يا ابني لما تستخدم مقص التشريح، استخدمه من ناحيته المقعرة، ستجدها أكثر حنانًا». والجراح الماهر هو الذي يصل إلى الهدف بضربة واحدة تخترق الجلد وما تحته من أنسجة دهنية وطبقات عضلية.. و«ليس الإمساك بالمشرط هو الذي يميز جراحًا عن آخر فحسب، ولكن لغة استعماله.. تلك التي يسمونها الكتابة بالمشرط».
في الرواية التي يهديها إلى نساء حياته اللواتي تعلّم منهن الكثير: جدّته وأمه وزوجته وابنته، ضرب إيمان يحيى ضربة واحدة بمشرطه وكتب المسكوت عنه. ولا أدري لماذا كان عليه أن يشير في مفتتح الرواية إلى أن «جميع الشخصيات والوقائع الواردة في هذا العمل من وحي الخيال، وأن أي تشابه بينها وبين الواقع هو محض صدفة». «أجمل صدفة»، كما غنى العندليب الأسمر. تنبيه يشبه «قفشة» مصرية و«ضحك كالبكا» للتحريض على مزيد من المقارنات بين الأصل والصورة، فالتفاصيل تشي وتفضح ولا تقبل الالتباس، والأحداث تنبض في واقع ملتهب أثناء الثورة وبعد إزاحة حكم الإخوان، واللغة الرائقة الذكية في انتقاء المفردات الدارجة، سرعان ما تتحول إلى حمّى لا تهادن.. فهل من حق الروائي أن يكون منحازًا بشكل سافر؟ أن يحدد رأيه في الشخصيات من أول صفحات الرواية؟ كأن الكتابة بالقلم، لا بالمشرط، هي الدفاع الأخير، قبل الغرق، أمام موجة عاتية هائجة تكتسحنا جميعًا. رواية مشوّقة تنتمي إلى هذا الزمن دون أن تقطع مع تقاليد السرد في مصر الستينات.. نقلة من قرن إلى آخر لجيل متحمس كُتب عليه أن يشهد تساقط أوراق شجرة التوت. «أليس عجيبًا أن تزداد الأوهام رسوخًا في لحظة الحقيقة المطلقة التي يعيشها الإنسان؟ أليس أعجب أن تصبح فيلسوفًا على كبر؟ أخذ الشربيني يكتب كما لو كان لم يرَ ورقة وقلمًا من قبل. كتب، ثم كتب، وما زال يكتب».