ديانا مقلد
كاتبة واعلاميّة لبنانيّة
TT

صوت الجندي السوري من تحت الأنقاض

أمام أنقاض مبنى في مدينة إدلب وقف «هادي»، وهادي شاب سوري حولته السنوات الأخيرة إلى مراسل. ظهر مرتديا درعه الواقي وحاملا ميكرفونه، بينما الكاميرا تنقل لنا لقطة مقربة لجثتي جنديين من جنود النظام السوري بين الركام قبل أن تنتقل إليه ليعلن أن هذا المبنى كان يستخدمه جنود النظام لقصف المدينة، لكن تمكن مسلحو المعارضة من دحرهم وقتلهم بعد أن رفضوا الاستسلام. وتابع ليخبرنا أن هناك جنودا عالقين تحت المبنى الذي يقف أمامه، وفعلا بدأ ينادي عليهم.
الدقائق الأربع لهذا الشريط استمرت على هذا المنوال: استجواب لأشخاص تحت الأنقاض يتسلل صوتهم متوسلا بينما يجري المراسل السوري المفترض تقريعا لهم ومعه مقاتل إلى جانبه يسأل من حين لآخر عن مذاهبهم..
«ليش ما سلمتوا حالكن؟؟»
شرع «هادي» يسألهم بينما الأصوات تأتي مكتومة وفيها مناشدات بالرحمة وبالإنقاذ من تحت الأنقاض.. «خفنا نسلم حالنا وقت الثوار طلبوا منا ذلك». «مشان الله، ببوس إيديكن، والله أجبرونا نخدم معهم، خفنا نسلم حالنا للثوار، بشار ما نفعنا بشي».
لكن «هادي» بدا عليه الاحتقان الشديد رغم تضرع الجنود وهو من سبق له أن نجا عدة مرات من قصف النظام، فوقف وقال لمن وصلنا صوته متوسلا حياته: «نص مليون أم شهيد روح بوس إيديهن، ذوقوا الآن الشيء الذي كنتوا تذيقوه للشعب السوري، الآن الله يذيقكم الشيء الذي أذقتونا إياه أربع سنين، كيف كنتوا تشبحوا.. هلق صرتوا تعرفوا الله؟!».
انتهى الشريط بوعود بإخراج الجنود..
طبعا، لا نعرف ماذا حصل بعدها، فهل حقا أخرج الجنود أم تركوا لمصيرهم تحت الركام وإن أخرجوا ماذا حل بهم؟.. لكن هذا النموذج من الصور والوقائع التي وصلتنا بعد سقوط إدلب ومعها فيديوهات تحطيم تمثال «إبراهيم هنانو»، وهو شخصية سورية من أصول كردية، وقبلها حقيقة أن تنظيم النصرة هو مكون أساسي من مكونات الفصائل الإسلامية التي تسيطر على الواقع في إدلب وإعلان الشريعة أساسا للحكم، عدا عن وقائع كثيرة أخرى، أمر لم يخلف نقاشا يستحقه في أوساط ناشطين ومثقفين وإعلاميين سوريين من معارضي النظام، بل على العكس إذ يسود خطاب تبريري لذلك النهج.
فمن الشائع هذه الأيام حين يبرز عبر «فيسبوك» مثلا نقد لارتكابات جهات محسوبة على المعارضة السورية أن يسارع البعض للتعليق بتهكم «أي شو منجبلكن معارضة من السويد؟؟» أو أن يقال: «بدنا نسمي الأشيا متل ما هي»، وتلك اللائحة من التعليقات التي يستسهل مطلقوها تبنيها لتسويغ ما يجري اقترافه من ارتكابات من فصائل مسلحة..
هل الحياد خيار بين حالتين قصويين..؟
لا يقاتل المتطرفون من أجل حرية الشعب السوري، بل من أجل السيطرة عليه.. ورفض بطش النظام السوري وعنفه اللامحدود لا يستقيم من دون رفض ممارسات تلك الفصائل وانتقاد علني صريح ومباشر لفئويتها ومنهجها.. فمسؤولية إعادة سوريا إلى ثورتها المفتقدة تكمن هنا في الجوهر الأخلاقي للثورة. ومهمة المنحازين إلى سوريا وإلى ثورتها رفض «النصرة» و«داعش» بما لا يقل حماسة عن رفضهم النظام.
نعم، ليست الفصائل المسلحة التي تسيطر على إدلب بجماعات وافدة من السويد، فهي نتاج واقع سببه النظام بشكل رئيسي، كذلك هم الجنود الذين علقوا تحت الأنقاض وكانوا يقصفون على المعارضة وعلى السوريين، فهؤلاء لم يسقطوا من السماء أو من السويد فهم أيضا نتاج هذا النظام. المعارضون السوريون الذين يبررون ارتكابات من هذا النوع أو في أحسن الأحوال يجملونها ويغضون الطرف عنها بذريعة أنه النظام، وأن هذا نتاج ما ارتكبه ويصمتون، هم في الحقيقة لا يفعلون سوى أن يبرروا خيارات الموت والاستبداد المتاح، وبذلك هم يقرون أنهم هم أيضا أبناء هذا النظام ولا يسعون للتمايز عنه.
[email protected]