يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

ثمن الاستقرار: شرعية الداخل وتعاظم النفوذ السعودي!

كيف يمكن قراءة الحدث السعودي الذي تصدر شاشات التلفزيون ومواقع الأخبار ومنصات التواصل الاجتماعي من زاوية سياسية؟
هنا يجب أن نبعد تماما عن كل المحاولات الآيديولوجية التي سبقت الحدث بتكهنات وتخرصات فرضها توقيت المرحلة وما تمر به المنطقة من عواصف سياسية حادة، ولذلك يجب عدم محاولة القفز على استحقاقات القرار السياسي بمحاولة عزله عن ظروف إنتاجه، إلى محاولات ربطه بتصورات متوهمة عن السياسة الخارجية السعودية من قبيل الحديث المكرور عن محافظتها وانضباطها.. إلى آخر قائمة المسلمات السياسية، المصكوكة بطريقة أقرب للعقائدية منها إلى فهم طبيعة وحساسية التحديات الآن، وفي المقابل تحويل هذه المبادرة الجديدة التي تعبر عن تبني «السياسة الاستباقية» إلى ثابت سياسي وليس إلى متحول ظرفي مبني على الصراع أو رياح الصدفة فحسب.
السياسة الاستباقية السعودية الجديدة، هي رسالة يؤكدها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بأنها ثابت سياسي أخلاقي تجاه الشعب أولا، وتجاه هذا «الإرث» للعائلة الحاكمة الذي يقضي بتكريس الأصلح والبناء على ما سبق دون قطيعة نشهدها حتى في الدول المجاورة التي يشبه انتقال الحكم فيها «انقلابا ناعما»، لكنه يكرس لقطيعة مع ما سبق كما هو واضح في أكثر من موقع.
اليوم يجب الكف عن الحديث عن الدولة السعودية باعتبارها امتدادا لحكم أفراد محكومين بإطار زمني وجودي، وعلينا استشعار ملامح المرحلة التي دشنها العهد السعودي الجديد بإعطاء الثقة لجيل الأحفاد في تأسيس لثبات سياسي بإطار زمني يمتد لعقود، وهو ما يعني أن ثمن الاستقرار السعودي ليس مجانيا بقدر ما أنه انعكاس لفهم حساسية المرحلة والتوقيت وإعادة موضعة المملكة بوصفها نموذجا لدولة الاستقرار والرفاه رغم الكثير من التحديات التي على عاتقها وأبرزها التحديات الأمنية وأزمات المنطقة المتراكمة والمعقدة.
ما حدث في الساعات التي تلت وفاة الراحل الكبير الملك عبد الله بن عبد العزيز، طيب الله ثراه، هو حقن حالة الاستقرار السياسي في السعودية بجرعة طويلة الأمد من شأنها قطع الطريق على كل التخرصات التي تبنتها أقلام خارجية وداخلية على سبيل القراءة الاستشرافية لكن دون معطيات على الواقع، فهي مزيج من انطباعات وصور نمطية عن الحكم السعودي، إضافة إلى تشغيبات مواقع التواصل الاجتماعي وبعض تقارير الصحافة الغربية التي تقترب من مقالات الحظ والأبراج الرديئة.
رغم كل حجم المفاجأة والدهشة الذي تعكسه تحليلات السياسيين الغربيين الآن، فإن «السياسة الاستباقية» كانت لها مقدمات تجعل من القرار ذروة تصعيد سياسي، فاستحداث نظام البيعة وإضافة منصب ولي ولي العهد، إضافة إلى تدعيم الوزراء السابقين بالثقة الملكية، رسالة واضحة بأن الإرث السياسي السعودي قائم على البناء على ما سبق وتطويره.
تفاجأ المغرضون بحجم وثبات الشرعية السعودية المستمدة من الداخل التي عكستها أفواج من الكتل الاجتماعية من علماء وتكنوقراط ورجال أعمال وإنتلجينسيا وعموم المواطنين الذين باركوا سلاسة انتقال الحكم، ليتحول أولئك إلى عرافين بلغة سياسية، لكن في شأن السياسة الخارجية السعودية، محاولين فرض أجندات جديدة باعتبار أن التحول السياسي في المملكة قد يصاحبه تحول على مستوى المواقف الخارجية، وهو ما يخالف وضعية «الاستباقية السعودية» على مستوى السياسة الخارجية التي تمثلت في تقديم حلول سياسية لأزمات المنطقة الكبرى من المصالحة بين دول الخليج، إلى المبادرة اليمنية، إلى الموقف من الأزمة السورية، إلى الملف الأكبر؛ الحرب على الإرهاب. وبالتالي، فإن هدف السعودية المعلن والثابت هو صياغة تصورات وحلول إنقاذ للعبث الجيوسياسي في المنطقة بهدف إعادة استقرارها.
السعودية تملك أوراقا تفاوضية عالية القيمة، ويكفي أن إعادة الاستقرار لمصر، والمحافظة على استقرار الحالة البحرينية، والقطيعة التشريعية والمجتمعية مع «الإرهاب»، تعزز من قدرة الرياض على طرح أولوية «الاستقرار» في مقابل نزعات الانفصال، وتدخل الميليشيات الشيعية في سوريا بمظلة إيرانية.
ولا يغيب عن البال أن السعودية حافظت على عقلانيتها على طول الخط، وأشادت باحترام رغبة الشعوب، وجرمت «القاعدة» وأخواتها، وفي الوقت نفسه لم تسقط، ولو لمرة، في فخ الاستقطاب الطائفي، ودعمت الجيش اللبناني، وحشدت حزب الله و«القاعدة» و«داعش» في المربع ذاته، ووقفت مع العراق في أكثر فترات هجوم المالكي عليها، وأخيرا ترفض أي تقسيمات سياسية طائفية، في الوقت ذاته الذي حملت فيه المجتمع الدولي مسؤوليته الأخلاقية في سوريا.
هذه المواقف يجمعها خيط واحد، هو دعم استقرار ورفاه المنطقة والشراكة المسؤولة مع جميع الأطراف.
محور الاعتدال بقيادة السعودية يواجه معضلات إعادة ترتيب البيوت السياسية بعد الاستقرار، بأعبائها العسكرية والاقتصادية. محور الاعتدال يواجه كيانات السياسة الخارجة على منطق الدولة، ويشمل ذلك حزب الله من جهة، والمجموعات المسلحة التي قد تنجرف إلى غايات أبعد من إسقاط الأنظمة.. إلى بناء الدول مثل «داعش». محور الاعتدال عليه عبء ما بعد الاستهداف العسكري للإرهاب، فأسلوب الوجبات السريعة والطائرات من دون طيار ومجمل سلوك الولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب، أورث المنطقة دولا منهكة مفتتة قابلة للانفجار.. محاولة صناعة الاستقرار في حقول الألغام أمر أشبه بالمعجزة.
أولوية المرحلة المقبلة هو رفع أمن الخليج واستقراره إلى مراحل متقدمة عبر تطوير القطاعات الأمنية والتدريب، وصولا إلى ما بات يعرف الآن بـ«استراتيجيات الأمن المستدام»، وهو تطوير آليات ذات مدى زمني طويل تسهم في تعزيز مفهوم الأمن بوصفه أولوية، وتدريب القطاعات الأمنية للارتقاء إلى مستوى التحديات التي تزداد يوما بعد يوم ويأتي الإرهاب على رأسها، وهو ما يمكننا أن نتفاءل معه ببروز شخصيات شابة في القطاعات الأمنية والدفاع جديرة بالتعامل مع التطورات الخطيرة التي تعيشها المنطقة.
[email protected]