مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

ملوك العرب ومهنة الحكم

قد يكون مغريا لأي كاتب أن ينجذب كما فراشة إلى ضوء المقارنة بين الملك الحالي للمملكة العربية السعودية سلمان بن عبد العزيز والملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، كل من زاوية نظره، وبما يهم شؤون بلده وعلاقتها بالمملكة العربية السعودية، وأحيانا يتبنى بعضنا وجهات نظر غيرنا، مثل أيهما أقرب إلى الملك الإصلاحي: عبد الله أم سلمان؟ رغم أهمية المقارنة في السياسة ودور القائد في قيادة بلده، فإن للبلدان خصائص، فالبلدان كما السيارات، فرغم أن مهارة السائق مهمة، ولكن نوعية السيارة التي يركبها تحدد الكثير من الصورة النهائية لسباق الدول، والمملكة العربية السعودية سيارة فخمة، فهي قبلة العالم الإسلامي ورمانة ميزان عالم الطاقة، ومركز العروبة، لغة وأصلا، وحكامها الآن ربما أقرب شيء نعرفه عن أرستقراطية عربية مستمرة مقارنة بالأسر الحاكمة في بقية العالم، فهم من نعني عندما نقول: ملوك العرب.
والملك الراحل عبد الله والملك الحالي سلمان لا يختلفان كثيرا من حيث منطلقات المملكة السياسية والتزاماتها التي تفرضها سرعة السيارة وقواعد السير. قد يكون الفارق في الأسلوب، أي في التكتيك، لكن الاستراتيجية واحدة.
فمثلا في مصر تتنازعنا هذه المقارنات، جزء منها تفرضه لحظة القلق التي نعيشها والجزء الآخر يخص عدم معرفتنا أو على الأقل ضبابيتها عندما نقول إن الملك عبد الله كان أقرب إلى مصر من الملك الحالي، وهذا هو عدم المعرفة بعينه. وأنا أكتب عن مصر هنا كمثال، وليس لأننا في مصر مركز الكون.
حظي أنه أتيحت لي رؤية المغفور له الملك عبد الله بن عبد العزيز 5 مرات، 3 منها مقابلات مطولة و2 في سياق السلام والاستماع، كما عرفت الملك الحالي بشكل أكثر قربا، ومن هنا أقول: كل يعرف مصر بطريقته، ولكن لم أستمع في حياتي إلى شخص غير مصري يصف شوارع القاهرة في الخمسينات والستينات وكأنك تمشي معه في رحابها مثل الملك الحالي، الملك سلمان بن عبد العزيز، فهو يعرف مصر شوارع وثقافة وكتابة، وسياسة، ويصحح لك معلومات عن مصر إن كنت من غير المدققين في المعلومات، فهو رجل دقيق ولا يقبل إلا المعلومة المحددة. كما أن أجمل الصور التي تراها في بيته هي صورته وهو شاب مع أخيه الراحل الملك فهد وهما يلبسان الزي العسكري ويتدربان متطوعين في حرب السويس 1956. هذا هو حس ملوك العرب بما يدور حولهم، لديهم التزام أخلاقي بقضايا أمتهم. ومن يستمع إلى الملك الحالي بدقة ومدى معرفته بقبائل السعودية ومدى إلمامه بالأسر المؤثرة في العالم العربي وما بعده، ومدى متابعته وقراءته للدرجة التي يرد فيها على أكثر من مقال في صحيفة سعودية أخطأ كاتبه في تاريخ المملكة، كل هذه مؤشرات تقول إننا أمام ملك من نوعية خاصة، ملك ملم ويعرف ويدقق. الملك سلمان ملتزم جدا بتاريخ المملكة وميراث الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، وفخور بهذا التاريخ وبطريقة الحكم، ولا يتوقف كثيرا أمام رأي الآخرين في المملكة، فللمملكة منهجها.
وفي هذا لا يختلف الملك الحالي عن الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، كلاهما ملتزم استراتيجيا بالمنهج وبدور المملكة في العالم، وخصوصا العالمين: العربي والإسلامي.
ولمن لم يقتربوا من الملك عبد الله رحمه الله أود أن أؤكد على صفات أساسية في شخصيته منحته كاريزما سياسية عند شعبه وخارج الحدود. عندما تجلس إلى الملك عبد الله تدرك أنك في حضور ملك مهم من ملوك العرب، ومع ذلك يقف هذا الملك ليسلم على كل من حضر للسلام عليه من أهل الحضر والبادية وشيوخ القبائل ووجهاء المجتمع، وقد شاهدته واقفا لما يقرب من ساعة، واقفا يسلم على مواطنيه، وهذا أمر سعودي لا تجده في أعتى الديمقراطيات حيث يكون للمواطن العادي خط مباشر مع رأس الدولة. وأعرف هنا مسبقا من سيرميني بأنني واقع تحت سكرة الاستشراق ولا خط هناك ولا غيره، ولكن ليس من سمع كمن رأى أكثر من مرة وبتدقيق شديد.
الملك عبد الله كان فريدا في احترامه لشعبه ومواطنيه وأذكر أنني سألته مرتين في لقاءين مختلفين عن المواطن السعودي، مرة في عام 2005 ومرة ثانية في عام 2006.
في عام 2005 كان أول حوار صحافي لي مع المغفور له الملك عبد الله، وسألته في آخر الحوار سؤالا عن المواطن السعودي ليرى الغرب كيف يرى ملوك العرب شعوبهم، يومها قال لي الملك بوضوح لا لبس فيه إنه من هذا الشعب ولا فرق بينه وبين أي مواطن سعودي «كل سعودي هو أنا». وضم الملك غترته حول عنقه وقال: «هم في رقبتي». كان متأثرا ومؤثرا بتلك الحركة.
عبد الله بن عبد العزيز كان لديه حس لا يكتسبه الفرد بالتعليم بل بالفطرة، وكانت فطرته كقائد بالتأكيد سليمة.
قابلته أيضا في حوار آخر عام 2006، وكررت عليه ذات السؤال عن رؤيته للمواطن وإذا ما كانت تغيرت، فوجدته يتحدث عن المواطن برؤية أكثر عمقا تعكس موقعه كربان للسفينة، قال: «ومن نحن من دون المواطن السعودي؟! نحن نستمد قوتنا من الله ثم من مواطنينا».
هكذا هم ملوك آل سعود، وملوك العرب، يدركون قيمة من يسوسون من الناس، وكان الملك عبد الله نموذجا باهرا لهذا.
الملك عبد الله أيضا تحدث في أحاديث أخرى لم تكن للنشر عن نقلات نوعية سيخطوها فيما يخص الإصلاح في المملكة، وخطاها ونفذها، وكانت آخرها أن يكون للمرأة السعودية خمس المقاعد في مجلس الشورى. الملك عبد الله كان قائدا لا يخاف، واجه الرئيس بوش بحقيقة وضع الفلسطينيين في تكساس، وكنت هناك يومها وتابعت ردود فعل الولاية، الملك عبد الله كان لا يخاف ممن حوله، إقليميا أو داخليا. كان فارسا عربيا ذا فراسة، يفهم في البشر بفطرة سليمة وبصيرة ثاقبة، ومن عرفوه أكثر سيقولون أكثر.
المشكلة في الحديث عن المملكة العربية السعودية، كما يقولون، من يعرفون لا يتكلمون، ومن لا يعرفون يملأون الفضاء كلاما، وأحيانا تعرف وتسمع حديث من لا يعرفون بنماسته وطريقة تنميقه وتنظيمه فتبدأ في الشك بمعلوماتك.
لا مقارنة بين الملك السابق والملك الحالي فلكل ملكه، وللملك بيولوجيا خاصة، فحتى ما قلته عن معرفتي بالملك سلمان سيتغير؛ لأن الملك سلمان غير الأمير سلمان، كما كان الملك عبد الله رحمه الله غير الأمير عبد الله.
ما نعرفه عن آل سعود هو أنه كما وظيفتنا الكتابة والتدريس فهم يمتهنون الحكم، أي أن الحكم وظيفتهم وعملهم، قد يحتاجون إلى السماع إلى تعليقاتنا ولكنهم لا يحتاجون إلى نصيحتنا، وكما يقول أهل السعودية «الشيوخ أبخص»، أي أدرى، وكانت هذه الدراية واضحة في استحداث منصب ولي ولي العهد الذي بنى الجسر بين أصغر أبناء الملك المؤسس (الأمير مقرن بن عبد العزيز) وليا لولي العهد في فترة الملك عبد الله، ثم وليا للعهد في عهد الملك سلمان، وبين جيل الأحفاد متمثلا في الأمير محمد بن نايف وليا لولي العهد.
الإشارات واضحة للشرق وللغرب ولكل من له عيون ترى، المملكة مستقرة رغم كل ما يحيط بها، وخط الحكم واضح وضوح الشمس.