رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

عيد البرية عيد المولد النبوي

أربعة مشاهد عرضت لي في أيام الذكرى الحالية للمولد النبوي الشريف. أما المشهد الأول، فيعود للثمانينات من القرن الماضي. فقد كنت ذاهبا لدار الفتوى في بيروت، لحضور استقبال المفتي الشيخ حسن خالد بمناسبة المولد النبوي. وهي عادة درج عليها مسلمو بلاد الشام منذ أزمان وآماد. وبالمناسبة، فإن كبار المسيحيين أيضا في لبنان وسوريا وفلسطين كانوا يأتون للتهنئة. ويومها وصلت باكرا فوجدت المفتي يسلم على عجوز فان ويحتفي به. وعرفت للوهلة الأولى أن الشيخ هو الشاعر القروي (رشيد سليم الخوري) صاحب القصيدة المشهورة:
عيد البرية عيد المولد النبوي
في المشرقين له والمغربين دوي
بدا من القفر نورا للورى وهدى
يا للتمدن عم الكون من بدوي
يا فاتح الأرض ميدانا لدولته
صارت بلادك ميدانا لكل قوي
يا قوم هذا مسيحي يذكركم
لا ينهض الشرق إلا حبنا الأخوي
فإن ذكرتم رسول الله تكرمة
فبلغوه سلام الشاعر القروي
ولأن المفتي الراحل (الذي اغتيل أواخر الثمانينات) كان يعرف الشاعر القروي ويألفه، فقد خاض معه مازحا في نقاش بشأن الإيمان والإسلام ونطق الشهادتين، وخشيت أن يغضب الرجل، فاندفعت منشدا قصيدة القروي بكاملها، فاستمع إليها الحاضرون حتى إذا بلغت البيت الذي يسلم فيه القروي على رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، ارتفعت الأصوات بالصلاة على النبي والبكاء والدعاء للقروي بالرحمة والمغفرة، وودعناه جميعا بمن فينا المفتي إلى باب سيارته.
أما المشهد الثاني فيعود لعشرة أيام. فقد ذهب رئيس الوزراء العراقي المالكي إلى كربلاء، ليزور الإمام الحسين بمناسبة مولد جده، عليه الصلاة والسلام. وبدلا من أن تكون تلك الزيارة داعية لوحدة المسلمين والعراقيين باعتبار أن ربهم واحد، وقرآنهم واحد، ونبيهم واحد، رأى المالكي الذي تشتد خصوماته مع مواطنيه و«رعاياه» منذ مدة، أن يستخدم هذه المناسبة في الخصومة ذاتها. فقال إن كربلاء ينبغي أن تكون قبلة يتوجه إليها المسلمون خمس مرات بسبب المعاني السامية التي تتضمنها شهادة الحسين؛ وبخاصة أن الصراع الدائر اليوم (ويقصد بذلك الأنبار) إنما هو صراع بين نهج الحسين ونهج يزيد! وكأنما كان أجداد أهل الأنبار ممن شارك مع جنود يزيد بن معاوية في قتل الحسين. والكل يعلم أن خلاف أهل الرمادي والفلوجة والموصل وبغداد وسامراء مع المالكي إنما هو خلاف على مسائل سياسية وإدارية ولا علاقة له بالدين والطائفة والمذهب. وكانت جمهورية إيران الإسلامية، وهي من وراء وأمام المالكي ونصر الله والأسد وآخرين كثيرين، قد زعمت قبل كل واقعة خراب أو قتل، وخلال أكثر من عقد، أنها هي وأنصارها إنما يقصدون بالعنف في المشرق العربي واليمن والبحرين وأماكن أخرى: مصارعة الولايات المتحدة وإسرائيل! لكنهم ومنذ عام فقط، اندفعوا بسوريا والعراق ولبنان واليمن لمقاتلة جيرانهم وإخوانهم في كل تلك المواطن بحجة الدفاع عن المذهب، وأن الخطر عليهم وجودي، وأنهم يريدون مواجهة «التكفيريين». فلما اندفع السنة للدفاع عن أنفسهم ضد «داعش» الآتية من سجون النظامين السوري والعراقي، صمت نصر الله وظل يقاتل إلى جانب الأسد، كما ظل المالكي يزعم أن العدو هو نهج يزيد في الأنبار وغير الأنبار.
أما المشهد الثالث بمناسبة المولد النبوي، فقد حدث بطرابلس الغرب. إذ نقلت وكالات الأنباء أن آلاف الأطفال الذين كانوا يحتفلون بالمولد النبوي بتفجير المفرقعات الصغيرة، أدخل منهم 64 إلى المستشفيات بجروح وبقطع أصابعهم الرخصة. وكان يمكن أن ننسب الأمر إلى بعض التجار السفلة الذين باعوهم مفرقعات فاسدة. لكنها المرة الأولى التي يستخدم فيها أطفالنا المفرقعات في المولد، وكنا نعرف منذ الصغر وفي الشام ومصر استخدام «الفوانيس»، والطواف في الشوارع ليلا بها مع أناشيد المولد، وأرجوزة: طلع البدر علينا. فلماذا هذا الصخب بالمفرقعات؟ بالطبع، إنها الثقافة الجديدة في ليبيا التي تغص فيها الشوارع والحارات والنجوع بالشبان الذين يحملون السلاح الخفيف والمتوسط والثقيل! فهل أراد الأطفال وأهلوهم التناظر معهم؟ لا، ما أرادوا التشبه بهم، بل أرادوا بهذه الطريقة الساذجة الاحتجاج عليهم! إذ يزعم كثير من المسلحين الكذابين أنهم «سلفيون» وضد الاحتفال بالموالد، وزيارات الأولياء وقبورهم! لا يصح هنا القول السائر: إذا عرف السبب بطل العجب! بل إن العجب ليزداد، وتستعلي الدهشة حتى تبلغ حد الذهول. فليبيا بلد حكمه رجل نصف معتوه لـ40 عاما من دون حسيب ولا رقيب. وقد ثار الناس ضده وسوعدوا في إزالته، فكيف تصبح مهمة آلاف «الثوار» هؤلاء هدم المزارات، وسد الموانئ، واحتلال الوزارات، وقتل رجال الشرطة والأمن، من دون معرفة ماذا يريدون بالضبط. والذي يحدث الآن أن أعداء الحكومة المنتخبة والضعيفة قسمان: المسلحون الذين يريدون إسقاطها لينفردوا بالبلاد كل في ناحية، والمدنيون الساخطون الذين يريدون إسقاط الحكومة التي انتخبوها لأنها لم تستطع حمايتهم، ونشر الأمن في البلاد!
أما المشهد الرابع فوقع في الكويت، ولا ينبغي أن يخاف القراء، فليس في المشهد الذي سأعرضه قتل ولا ضرب ولا مذهبيات. كان المجلس الوطني للفنون والآداب بالكويت قد عقد إبان المولد النبوي عام 1974 مؤتمرا أراد فيه تبين أسباب وعلل التخلف العربي. ووقتها انصب سخط المشاركين من القوميين واليساريين والليبراليين على ما سموه: التراث، باعتباره العقبة الكأداء الحائلة دون التقدم العربي. وبالطبع، كان المقصود به الثقافة الشعبية، والنصوص الدينية العتيقة. وما قال أحد وقتها شيئا عن أنظمة الحكم السائدة، وبخاصة في دول عربية رئيسة مثل مصر والعراق وسوريا والجزائر وليبيا... إلخ. والطريف أن المثقفين الكبار الشتامين آنذاك، كانوا يعرضون نظريات الفوات والانقضاء والقطيعة؛ ثم ينهالون على تلك الثقافة المنقضية بمعاول الهدم بداعية التنوير والتقدم! وبعد 40 عاما على مؤتمر الكويت لبحث أسباب التخلف، أراد المجلس الوطني الكويتي العودة إلى الأمر بمراجعة نقدية أو مؤتمر الكويت حول التخلف بعد 40 عاما. فماذا وجدنا؟ جادل البعض في مفاهيم التخلف. لكن الذين سلموا بوجوده، وأنا منهم، عادوا لقراءة الأسباب. ولأنني كلفت بنقد أطروحة التراث ودوره في التخلف، فقد توصلت بعد طول سرد إلى أن التخلف الثقافي الذي أوصل إلى أزمة حضارية يعود لثلاثة أسباب: التجريف الذي أحدثه الاستعمار، والـذي أنتج الحالة التي سماها مالك بن نبي: القابلية للاستعمار، والتجريف الذي أحدثته أو تسببت به الدولة الوطنية في مرحلتها العسكرية، والتي شرذمت المجتمعات، وضربت الإنسان والعمران، والتجريف الذي أحدثه المثقفون القوميون واليساريون والتحديثيون ولجهتين: لجهة ملاحقة الموروث والتقليدي في ثقافة المجتمعات وتجاربها من دون داعٍ، ولجهة العجز عن بلورة وإنتاج مشروع ثقافي عربي معاصر. ووسط هذا التصحر الذي أحدثه الطغيان وقصور المثقفين ازدهرت الطهوريات والأصوليات والإحيائيات، وتفاقمت التدخلات الأجنبية والإقليمية، وهي تعرض وبالقوة مشروعات سيطرة متضاربة، ما استطاع شبان الثورات في موجتها الأولى مواجهتها صدا وبناء.
قبل 80 عاما وأكثر اعتبر الشاعر القروي ظهور النبي، صلوات الله وسلامه عليه، إيذانا بمشروع كوني للتمدن والحضارة، ويعود المشروع اليوم في صورة تحد للوعي والبصيرة، والإرادة والعزيمة: «والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون».