أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

حماس وأوهام النصر

«للنصر ألف من الآباء.. أما الهزيمة فدائما يتيمة».. طرق ذلك المثل اللاتيني مخيلتي في ذلك اليوم، عندما كنت أتابع الزعيم الحمساوي إسماعيل هنية على شاشات التلفاز يتباهى بالانتصار التاريخي لجماعته في الحرب المصغرة الأخيرة مع إسرائيل.
كان خطاب التسعين دقيقة ممتعا لسبب وحيد على الأقل: اخترق هنية السرد الإعلامي العالمي وفقا لما أثارته إسرائيل من حرب مصغرة بصورة ظاهرية للحصول على بعض المزايا غير المحددة، بينما كان العالم مصروفا انتباهه نحو وليمة الدماء التي أراقها «داعش» في أجزاء من شمال غربي العراق.
تفاخر هنية قائلا وهو يمسح حبيبات العرق من على جبينه «لقد بدأنا الحرب بضرب حيفا بالصواريخ». ولم يذكر الزعيم الحمساوي من الذي اتخذ قرار بدء الحرب التي حصدت أرواح أكثر من ألفين من سكان قطاع غزة، ولا الآلية التي اتخذ بها مثل ذلك القرار. وفي تصوره، لا اعتبار للناس، إلا إذا كانوا وقودا للمدافع التي تستخدم في حرب غير متكافئة ضد عدو فائق القوة، وفي غياب أي استراتيجية ذات مصداقية. ووصولا إلى تلك النقطة، قدم هنية التحية لحفنة من الشخصيات الحمساوية التي لاقت حتفها في الحرب المصغرة، في الوقت الذي مر فيه مرور الكرام على حقيقة مفادها أن السواد الأعظم ممن قضوا في هذه الحرب كانوا من المدنيين الذين استخدموا كدروع بشرية. ولم يكن يبدو عليه الاهتمام بحقيقة أخرى مفادها أن انتصاره المزعوم يتميز بالدمار الذي طال 90 في المائة من البنية التحتية الضئيلة في قطاع غزة. فوفقا لخبراء منظمة الأمم المتحدة، فإن القطاع يحتاج إلى عشرين عاما على أدنى تقدير لإعادة ما قامت إسرائيل بتدميره.
يا له من نصر.. حقا!
وعلى الرغم من ذلك، كان هنية على حق، إلى حد ما على أقل تقدير، حول فوزه بانتصار ما. فلا يزال هو ورجاله المسلحون يبسطون سيطرتهم على قطاع غزة. وتحول صقر الدجاج، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلى إيهود أولمرت جديد بالبدء في ما ليس لديه الشجاعة لإنهائه. فقد عاث فسادا في غزة، لكنه لم يسمح لحماس فقط بالعيش، بل وبالاحتفاظ بقبضتها الحديدية على السكان العاجزين غير المسلحين (إن نصيحة ميكافيلي السليمة لا تقضي بجرح العدو اللدود ثم تركه ليعيش. فإما القضاء عليه أو اتخاذه صديقا، كما زعم!).
وكانت رسالة هنية إلى أهل غزة واضحة: سوف نبدأ الحرب وقتما نشاء وننتهي منها وقتما نشاء! ولا اعتبار لكم البتة!
والأسوأ من ذلك، بدا من الجلي أن قرار شن الحرب لم تتم مناقشته من الأساس ولا حتى داخل حركة حماس. لم يكن إلا لحفنة من الرجال الذين يعملون في الغرفة الخلفية ويديرون العرض المروع.
ومع ذلك، ربما جاء خطاب إسماعيل هنية المتبجح، قبالة حشد من الناس الذين كان صمتهم المطبق أعلى صوتا من الاحتجاجات الصاخبة، سابقا لأوانه. ففي اليوم التالي، كان مطلع صحيفة «كيهان» اليومية الإيرانية واسعة التأثير والصادرة عن مكتب المرشد الأعلى، تدعي أن «الانتصار في غزة» كان بالنيابة عن النظام الخميني في طهران. وفي الافتتاحية، ادعت الصحيفة أن «مصير الشرق الأوسط يتحدد هنا، في حسينية الإمام الخميني في طهران».
ونقلت الصحيفة عن المرشد الأعلى علي خامنئي قوله إنه «يجب تسليح الضفة الغربية تماما كما تسلحت غزة»، في مناورة ظاهرية لتحقيق انتصارات مماثلة. وشرعت الصحيفة في الثناء على العميد قاسم سليماني الذي كان يعيد صياغة منطقة الشرق الأوسط نيابة عن المرشد الأعلى.
ودعما لمطالب الانتصار المزعوم، نشرت وسائل الإعلام الرسمية في طهران سلسلة من رسائل زعماء حماس، يشكرون فيها الجمهورية الإسلامية لمساندتهم في «المعركة الكبرى» ضد «العدو الصهيوني»، وكل ذلك باسم «التضامن الإسلامي».
لدى بعض الصحف في طهران تقليد بطباعة اقتباسات من كلمات روح الله الخميني الراحل، الملا الذي أسس الجمهورية الإسلامية، باعتبارها من الكلمات الحكيمة. وآخر اقتباس تم نشره عن الخميني جاء ردا على حديث زعماء حماس حول «التضامن الإسلامي». وجاء الاقتباس على النحو التالي «يجب أن تعلموا أنه مجرد أن تكون مسلما ليس كافيا. يجب أن تعترف بالجمهورية الإسلامية كذلك» (من صحائف النور للخميني، المجلد 18، الصفحة 198).
بعبارة أخرى، هي رسالة إلى زعماء حماس مفادها: لا يوجد غداء مجاني بقدر ما تهتم طهران بالقضية. فإذا وفرنا لكم الأموال والصواريخ، فينبغي عليكم في المقابل إطاعة الأوامر كما يفعل «حزب الله» اللبناني وعصابة بشار الأسد في دمشق. فالجمهورية الإسلامية لا تريد، كما أنها وبكل تأكيد لا يمكن أن يكون لها حلفاء. على شاكلة الإمبراطوريات الأخرى، التي قامت أو التي تبغي، لا تريد إلا الخدم.
ومن غير المجدي في نهاية المطاف مناقشة من انتصر في حرب غزة المصغرة. فكما ذكر صن تزو، قبل أكثر من ألفي عام: لا انتصار في حرب ما لم يعترف أحد طرفيها بالهزيمة.
لا يمكن لهنية الاعتراف بالهزيمة لأن ذلك من شأنه أن يعرضه للاتهام بالمغامرة الطائشة، على أدنى تقدير. فقد تجاهل هو ورفاقه المجهولون نصيحة صن تزو، وكذلك نصيحة فون كلاوزفيتز من حيث عدم الاشتباك في معركة من دون امتلاك ما لا يقل عن خمسين في المائة من أسهم النصر فيها. أما جر الشعب إلى حرب غير متكافئة فهو يساوي تماما جرهم إلى الذبح وهم ينظرون.
ومن جانبه، من غير المرجح بطبيعة الحال أن يعترف نتنياهو بالهزيمة في تلك الحرب المصغرة؛ فمثل ذلك الاعتراف سوف يكتب سطر النهاية في حياته المهنية المضطربة. لذلك، فهو يدعي الانتصار أيضا من خلال الزعم أنه نجح في تدمير غالبية البنية التحتية الصاروخية لحركة حماس. وقد يكون ذلك صحيحا كما يمكن أن يكون مجانبا للصواب. ومع ذلك، يمكن إعادة بناء تلك البنية التحتية الصاروخية بسرعة خصوصا أن حركة حماس سوف توليها جل الأهمية على إعادة إيواء عشرات الآلاف من سكان القطاع غير المسلحين والذين فقدوا منازلهم خلال الحرب. ويمكن كذلك استبدال الصواريخ المفقودة من المصادر ذاتها التي وفرتها للحركة من قبل.
اندلعت الحرب الأخيرة على غزة بسبب أن كلا من إسرائيل وحماس وجدت الحالة الراهنة عصية على التحمل. تدرك حماس جيدا أن قاعدة الدعم التي تتمتع بها داخل غزة باتت تنهار. ففي وقت مبكر من هذا العام، أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «بيو» أن نسبة 63 في المائة من سكان غزة لديهم آراء سلبية حيال حركة حماس. ومن المثير للاهتمام أن حركة حماس كانت مكروهة بنسبة قليلة في الضفة الغربية التي يحمل نحو 53 في المائة من سكانها شعورا سلبيا إزاءها. اتسق ذلك مع التغييرات الجذرية للمزاج العام عبر العالم الإسلامي، حيث إن 50 في المائة من الناس «في تركيا» و79 في المائة «في نيجيريا» يرفضون الإسلاميين الراديكاليين.
غير أن الحالة الراهنة التي نشبت الحرب على أثرها لم تتغير داخل قطاع غزة. فلا تزال حماس تسيطر هناك من خلال استراتيجية وحيدة: إطلاق الصواريخ العشوائية بين الفينة والفينة على إسرائيل. ولا تزال إسرائيل هناك في حالة من الكراهية المستمرة جراء سقوط الصواريخ عليها.
إذا ظن هنية ذلك من قبيل الانتصار العظيم، فالأفضل له أن يبحث عن علاج لحالة الوهم الحاد التي ألمت به.