نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

غزة.. والبعد المصري الجديد

السؤال الكبير الذي فرض نفسه أثناء الحرب الشرسة في غزة هو: إلى متى تعيش المنطقة حربا دورية، يفصل بين الواحدة والأخرى شهور أو سنوات قليلة؟ ولقد صار هذا السؤال ملحا ليس فقط بفعل الدمار الواسع، والعدد الهائل من القتلى خصوصا في صفوف المدنيين، وإنما لما تثيره من انفعالات جمعية حادة على مستوى شعوب المنطقة والعالم.
الجواب عن هذا السؤال في إسرائيل ما زال قاصرا وغير منطقي، فما زال الخيار الأفضل والأسهل، هو الخيار الأمني العسكري؛ إذ رغم الخسائر المعنوية والبشرية الفادحة، التي مُني بها الإسرائيليون في هذه الحرب، فإن فريقا قويا في إسرائيل يرى أن ما حدث فيها يبرر رفع اعتمادات الجيش وتطوير سلاحه في الموازنة التي يجري نقاشها الآن، وفريقا آخر يفكر، بل ويدفع باتجاه إعادة احتلال غزة لإنجاز المهمة التي يرى 77 في المائة من سكان إسرائيل أنها لم تُنجز، وفريقا آخر لا يريد احتلال غزة خوفا من الخسائر، ويفضل على ذلك توسيع عمليات الردع بمضاعفة مساحات الدمار، متخذا من درس الضاحية الجنوبية مثالا يُحتذى. أما الفريق الأضعف من بين كل الفرقاء الذين يصنعون السياسة في إسرائيل، فهو الذي يتحدث على استحياء عن خيار التفكير في سلام معقول مع الفلسطينيين يكون ممرا لسلام شامل مع الجوار العربي، ويتيح لإسرائيل فرصة تاريخية للعيش والتعايش في المنطقة بعيدا عن احتمالات حروب مع الجوار.
وما يشجع صناع القرار في إسرائيل على الابتعاد عن خيار الأقلية، واعتماد الخيار الأمني العسكري، هو ضعف الضغط الخارجي، خصوصا الضغط الأميركي، مضافا إلى ذلك سلسلة الحروب الداخلية التي تشتعل في العالم العربي، وتحديدا في سوريا والعراق، اللذين كانا على الدوام بمثابة تهديد راهن وكامن لإسرائيل من الشمال والشرق.
إلا أن هذا العامل الذي ترتاح إليه إسرائيل، وتدخله في حسابها بوصفه عاملا مساعدا لعدم التفكير في تسوية سياسية، بدأ يتراجع تأثيره موضوعيا، وهنا ينبغي أن يُقرأ وضع مصر الجديد بصورة مختلفة.. بمعنى أن النظام الجديد في مصر الذي يقوده الرئيس عبد الفتاح السيسي، وضع هذا البلد النوعي الكبير على طريق جديد من شأنه مضاعفة النفوذ المصري على كل الصعد؛ ففي أمر غزة، تكرس وتعمق الدور المصري بوصفه دورا محوريا تلاشت وبسرعة كل محاولات منافسته وإضعافه. وعلى الصعيد العربي، فقد نشأت معادلة قوة جديدة لمصر من خلال خيارها الأكثر فاعلية بالاتجاه إلى تدشين تحالف استراتيجي جديد، مضافا إلى ذلك تحرير القرار المصري من سطوة الاعتبارات الأميركية لمصلحة خيارات مفتوحة، بما في ذلك الخيار الروسي وغيره، وهذا التنامي المضطرد في النفوذ المصري لن يكون بعيدا ولا محايدا في قضية القضايا وجذرها الأعمق.. القضية الفلسطينية.
وحين تحدث الرئيس السيسي عن رؤيته للحل في غزة، وقدم تفسير مصر لمبادرتها بشأن وقف إطلاق النار ورفع الحصار، لم يغفل عن التركيز على أن كل ما يحصل في غزة وبشأنها ينبغي أن يقود إلى حل عادل للنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، ومصر في هذه الحالة ليست وسيطا فنيا محايدا، وإنما هي صاحبة مصلحة استراتيجية في ذلك.
فهل يقرأ الإسرائيليون هذا البعد في ما يواجهون على أرض غزة، وما يصم آذانهم من صدى يملأ العالم إدانات للإفراط في القتل والتدمير، وهل يضعون هذا التطور في حساباتهم لوضعهم القادم في المنطقة والعالم؟ لو فكروا بصورة موضوعية، فإن الفريق الأضعف منهم، المنادي بحتمية السلام حلا جذريا للحروب التي لا تتوقف، يمكن أن يصبح الفريق الأقوى والأفعل، خصوصا أن نتائج حرب غزة، مهما كانت، سوف تصب حتما في صالحه.
إذن، فإن ما يترتب على حرب غزة حين تضع أوزارها بأي صيغة، وتحت أي عنوان، هو مبادرة العرب بقيادة مصر إلى شن حرب سلام قوية وفعالة ومنسقة.. دون انتظار مبادرة من كيري أو توني بلير ممن فشلوا بالأمس ولا أمل بنجاحهم في الغد.