رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

«الإخوان» ومسألة الشرعية

كما ضايقتنا الأحكام التي صدرت على الفتيات الصغيرات في مصر، لأنهن تظاهرن ورمين الشرطة بالحجارة، أرعبتنا أيضا حقيقة أن التنظيم الإخواني قرر إرسال الفتيات إلى الشارع، بالزي الموحد، والحركات المتشابهة. ومن المعروف أن الأمم المتحدة دأبت في العقدين الأخيرين على إصدار تقارير سنوية عن إشراك الأطفال في الحروب، وبخاصة في أفريقيا. إنما الغريب جدا أن يلجأ «الإخوان» إلى ذلك في نزاع يعرفون أنه يمكن أن يؤدي إلى مقتل فتاة أو أكثر، قياسا على ما جرى خلال الشهور الماضية: أين الشرعية الأخلاقية والقانونية التي تبرر هذا العمل من جانب «الإخوان»، ومن جانب القضاء؟ ونحن نعرف أن مشاركة الأطفال ذكورا وإناثا في الأعمال العنيفة وشبه العنيفة تحدث كل يوم في الغرب. لكن الشرطة تكتفي بالضبط وإحضار الأهل لتسلم أطفالهم، وإن لم تجد أهلهم تسلمهم إلى إحدى الإصلاحيات دونما حاجة لإيصال الأمر للمحاكم ما لم تحدث جريمة نتيجة هذا العمل أو ذاك من أعمال الشغب التي يشارك فيها الفتيان!
ليس من المستحسن ولا من المسوغ شيطنة «الإخوان» والإسلاميين الآخرين، وبخاصة أن التصريحات المعلنة بعد تقلبات الشارع والسلطة في مصر وتونس على وجه الخصوص، تعد الإسلاميين غير العنيفين فريقا سياسيا له حق المشاركة ولا جرم على أحد. إنما من جهة أخرى فإن للإسلاميين (والإخوان من بينهم) مسالك للشرعية والمشروعية لا ينبغي تجاهلها إذا أردنا أن نفهم تصرفاتهم الحقيقية بالإدانة بالفعل.
لقد اعتدنا سماع عبارة «الشرعية والشريعة» أو العكس في مظاهرات «الإخوان» واعتصاماتهم بعد أحداث 30 يوليو (تموز) 2013. وهذا الشعار بمعناه وليس بلفظه ليس جديدا. فمنذ العشرينات من القرن الماضي، هناك جمعيات هوية ظهرت بمصر وسائر أنحاء العالم الإسلامي، تعد أن شرعيات السلطات وأحيانا المجتمعات سقطت عندما ألغيت الخلافة على يد مصطفى كمال عام 1924. ومن هذه الجمعيات «جماعة» الإخوان المسلمين. وما سمى حسن البنا جمعية «جماعة» مصادفة، بل بسبب التاريخ العريق للمصطلح والذي يعني: الأمة في موطن معين، والاجتماع على إمام، والإجماع الفقهي. وهذا يعني أن الرجل عد أن الشرعية تقلصت حتى تركزت في التنظيم الذي أنشأه. ويكون على هذا التنظيم أن يعمل على استعادة الشرعية بشتى الأساليب. وظل «الإخوان» لمدة طويلة غامضين بشأن أسلوب استعادة الشرعية، لكنهم ومن خلال «النظام الخاص» مارسوا العنف ضد خصومهم السياسيين منذ الأربعينات. وعندما قامت ثورة 23 يوليو، كان عدد من أعضاء النظام الخاص لا يزالون في السجون لقتلهم القاضي الخازندار، ورئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي. ولا يزال حريق القاهرة عام 1951 حاضرا في الذهن. وقد بدأ الحريق - كما هو معروف - بإحراق متاجر لليهود والمسيحيين، ثم امتد للجهات الأخرى. وما دامت هذه «الجماعة» جماعة دينية أو خيرية، فلا يمكن لأعضائها المشاركة في أعمال سياسية باعتبارهم مجموعة، بل تكون لهم حقوق ومشاركات أفراد المواطنين ومراجعاتهم.
لكن في ظروف الحرب العالمية الثانية، والضيق الذي نزل بالناس لأسباب مختلفة، تصاعدت شعبية كل التيارات الراديكالية اليسارية والفاشية بين الشباب. وفي تلك الظروف شهد «الإخوان» تمددا يعود أيضا إلى صلابة التنظيم ويقين العقيدة، بيد أن الفكرة الأساسية في عقائدية التنظيم وإصراره هي استعادة الشرعية المفقودة، والتي ازداد تفاقمها بعد دخول الدولة الوطنية صاحبة الشرعية والمشروع في مرحلتها الثانية، مرحلة العسكريين الذين تحولوا خلال أقل من عقدين إلى طبقات حاكمة ووارثة ومورثة! وفي الوقت الذي كانت فيه هذه العقائدية تبنى حجرا على حجر في مواجهة الدولة الوطنية، انفجرت قلة من شباب الإخوان المتسلفين ومضوا باتجاه الجهاديات كما هو معروف منذ مطلع السبعينات.
إن المهم هنا ليس ارتكاب هذا التصرف العنيف أو عدم ارتكابه. بل تلك المقولة المجافية للدين وللعقل والمنطق. ففقد المشروعية يعني أن أعضاء الجماعة هم وحدهم المؤمنون أو المكتملو الإيمان؛ بينما يقول عز وجل: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا». فمن قال منهم بعدم شرعية الكيان السياسي أو النظام، استحل مقاتلته بأساليب شتى. ومن قال منهم بعدم شرعية المجتمع أيضا، مضى باتجاه التكفير وسفك الدم. وتمضي عمليات تحويل المفاهيم هذه، لتصبح الدولة ضرورية لإقامة الدين، وبذلك لا بد من الاستيلاء على السلطة لاستعادة المشروعية بتطبيق الشريعة أو تظل الدولة ويظل المجتمع غير شرعيين بالمعنى الديني. فيمكن سل السيف أو توجيه السلاح نحو الداخل وليس فقط نحو الخارج المعادي. ولا يفعل أحد بمجتمعه ما فعله الإسلاميون المتطرفون وغير المتطرفين، إلا إذا كان هذه الفعل المستحل للدم انشقاقا في قلب الدين أو المذهب.
لقد استظهرت في دراسة لي من قبل، أن الثمانينات والتسعينات شهدت تحولا اجتماعيا وثقافيا باتجاههم، لأن تيارا قويا ظهر فيه أيضا يساريون سابقون، وقوميون مهتدون، شارك في «ترشيد الصحوة»، ومضى إلى حد القول إن حكم الشريعة لا يختلف عن حكم القانون، وإن الإسلاميين إن جاءوا إلى السلطة بطرائق مهددة فلأنهم تعرضوا للملاحقة والاضطهاد، وستتحسن الأمور مع الوقت فيتمكنون من التخلي عن عقائدياتهم. لكننا نعرف أن الاستقرار الذي يولد راحة ويحبذ بالتالي التنازلات لم يحدث. ولذلك فالمنتظر إذا صمد التنظيم أن يظل هناك قدر كبير من آيديولوجيا فقد المشروعية، وبالتالي العمل على إحقاقها.
ماذا يعني هذا كله؟ هذا يعني أن الشرعية مفقودة لسقوط دار الإسلام التي سيطر عليها غير المسلمين. وتسودها القوانين المدنية، والعادات المتغربة! وقد كان يمكن لهذه العقائدية أن تتوارى أو تلين، لو نجحت الدولة الوطنية العربية، وتجنب العرب انقسامات الحرب الباردة وتقسيماتها. لكن الذي حدث غير ذلك، فمن جهة انتكست تجربة الدولة الوطنية العربية انتكاسة كبرى في كل مكان تسلم فيه العسكريون السلطة لجهة الحقوق والحريات، ولجهة التنمية، ولجهة المصالح الوطنية الكبرى والصغرى. وما تصاحب تآكل شرعيتها واتجاهها إلى الطغيان إلى صعود المعارضة السياسية المدنية من جانب الأحزاب والتيارات (ربما باستثناء المغرب الذي ما حكمه العسكريون وإنما حاولوا القيام بانقلاب فيه!)، لأن كل الاتجاهات السياسية كانت قد تحطمت تحت وطأتهم، ولأن القوميين واليساريين دخلوا في أحضانهم خنوعا أو اقتناعا. ولذلك ظهر سيد قطب والقرضاوي اللذان قالا إنه إذا جاز للقوميين والماركسيين القول إن رؤاهم وبرامجهم حتمية التحقق في التاريخ والواقع مع أنها إنسانية، فلماذا لا يكون الحل الإسلامي لدى الإحيائيين الصاعدين حتمي التحقق أيضا وبخاصة أنه إلهي؟!
وهكذا، فقد كانت محنة كبرى أمام الجمهور، بين الطغيان والفساد اللذين ما عاد تحملهما ممكنا، والإحيائيات التي تتراوح بين التنظيمات والجهاديات. ولذا بدا انطلاق حركات التغيير من جانب الأجيال الجديدة مخرجا مثاليا، لولا التوجه إلى المسائل الحساسة المتعلقة بالهوية مثل الدساتير والاستفتاء والانتخابات النيابية قبل الرئاسية. وعلى أي حال فإنها موجة أولى من هذا التزلزل الذي قلب مفاهيم كثيرة.
كانت تجربة «الإخوان» القصيرة في السلطة مخيبة. لكن تنحيتهم بهذه الطريقة يمكن أن تنصر توجهات التشدد في صفوفهم. ومما يدل على ذلك ليس ممارسة العنف فقط، بل شعارات الشرعية والشريعة، وإنزال الفتيات إلى الشارع.