غسان الإمام
صحافي وكاتب سوري
TT

صندوق العجائب: سقوط أحزاب السلطة

فرنسا ميدان لمعركة انتخاب رئاسية حاسمة، يوم الأحد المقبل، بين «جان دارك» عنصرية. وسمسار مالي أتى به الرئيس فرنسوا هولاند من مصرف آل روتشيلد، مستشاراً له. ثم وزيراً للاقتصاد. فأحرق المستشار طريق هولاند لتجديد رئاسته. وتطالبه أوروبا بإحراق قديسة «الجبهة الوطنية» مارين لوبان أمام ناخبيها الـ7.6 مليون فرنسي (21 في المائة من مجموع الناخبين).
كان جورج برنارد شو يسخر من جمهور كرة القدم: «قضيت عمري وأنا أودع أصدقائي الراحلين الذين مارسوا الرياضة». نجحت ديمقراطية الاقتراع عند جارته فرنسا. فقد اجتذب «صندوق العجائب» 70 في المائة من الفرنسيين المولعين بالرياضة، من الملاعب. ليتذكروا واجبهم الانتخابي. مارسوا الاحتجاج على زعمائهم التقليديين. فأسقطوا أحزاب السلطة في جمهورية ديغول الخامسة.
شاركت «داعش» في الانتخابات الفرنسية. لم يذهب المهاجر التونسي المتزمت إلى صندوق الاقتراع. ذهب إلى شارع الشانزليزيه السياحي، ليقتل حارساً أمنياً. ويجرح اثنين آخرين. ضحى هذا «الداعشي» بحياته، ليصوت لمارين لوبان.
سحبت مارين لوبان حزبها من «غيتو» أبيها العنصري. ودمجته في صميم اللعبة السياسية كحزب يميني، لا يختلف عن أحزاب اليمين التقليدي، إلا بعدائه للمهاجرين العرب والسود. وبرفضها لتذويب فرنسا في اتحاد أوروبي ولد مترهلاً. ومجرداً من عواطف التضامن بين القبائل الأوروبية.
صندوق الاقتراع في الديمقراطية الغربية ليس مثقوباً كصندوق الاقتراع عند الـ99.99 في المائة من الناخبين العرب والعالم الثالث، بدءاً من صندوق نيجيريا وتشاد. وانتهاءً بصندوق إيران الذي ملأه علي خامنئي بتسعة ملايين ورقة انتخاب مزيفة، لصالح مرشحه محمود أحمدي نجاد. ثم عاد فمنعه من خوض المعركة الانتخابية المقبلة، ضد مرشحه المفضل حسن فريدون روحاني.
من سينتخب السمسار إيمانويل ماكرون (39 سنة) خريج مدارس النخبة الإدارية العليا؟ أحزاب السلطة التي أخفقت في الجولة الانتخابية الأولى، أوصت ناخبيها بالتصويت لماكرون في الجولة الثانية. فعل ذلك الحزب الجمهوري اليميني الذي نال مرشحه فرنسوا فيِّون 20 في المائة من أصوات الناخبين. وكان من المتوقع أن ينال حصة أكبر، لو أنه لم يحرق فرصة الرئاسة، بتمويل زوجته من مال الدولة. وفعل ذلك أيضاً مرشح الحزب الاشتراكي الحاكم بِنْوا هاموند الذي نال 6.44 في المائة فقط من أصوات الناخبين.
لماذا لا تصوت أحزاب اليمين لحزب «الجبهة الوطنية» ورئيسته مارين لوبان التي جاءت الثانية في الجولة الانتخابية الأولى؟ لأن هذه الأحزاب لا تعتبر «تنازلاتها» كافية لتصنيف «جبهتها» حزباً ديمقراطياً. بالإضافة إلى تهديدها بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي وتدميره إذا انتخبت. ولمحاربتها الديمقراطية الليبرالية التي حكمت أوروبا الغربية، منذ أكثر من أربعين سنة. ثم رغبتها بإلقاء اليورو في سلة المهملات. والعودة إلى العملة الرخيصة (الفرنك)، لدفع ديون فرنسا به.
لوبان تريد تعزيز الهوية الفرنسية. واستعادة «السيادة» وحدود فرنسا التي ابتلعها الاتحاد الأوروبي. وتهجير العرب والسود، خصوصاً أولئك المقيمين الذين لم يحصلوا على الجنسية الفرنسية. كان العرب أكثر ترحيباً وتعاطفاً مع دولة الوحدة القومية التي أقامها عبد الناصر مع سوريا. أوروبا أكثر جفاء مع الاتحاد، وخصوصاً دول أوروبا الشرقية كبولندا. وهنغاريا. فقد استفادت من المنح والقروض التي قدمها الاتحاد الأوروبي لها.
إلى الآن نجا اليورو (عملة الاتحاد الأوروبي) من كل المتاعب التي حلت به. فلا إفلاس التراجيديا الإغريقية (اليونانية) أودى بحياته. ولا المافيا المصرفية الإيطالية أضرته. وحتى لو انتخبت لوبان رئيسه فهي ليست بقادرة على الإتيان بحكومة تخالف القوانين التي تحميه. فضلاً عن تدميره الجنيه الإسترليني. ومنافسته للدولار كعملة متداولة بتريليونات العولمة. وأرباحها الغامضة التي حققتها الحكومة المصرفية العالمية لرجال المال. والاستثمار. والبزنس.
مارين لوبان وأحزاب اليمين واليسار الشعبوية ضد هذه العولمة التي تتذمر منها الشعوب العاطلة عن العمل. والكسب. ذهبت مارين إلى الرئيس بوتين لتستدين وتمول حملتها الرئاسية الفاشلة في عام 2012. وزارته مرة أخرى خلال حملتها الانتخابية الراهنة. وزارت الرئيس ترمب في قلعته بنيويورك. فرفض استقبالها. والتزم الصمت بعد نجاحها الانتخابي. فهو لا يريد أن يدعم مرشحة مهددة بالفشل في الجولة الثانية.
فشل أحزاب السلطة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، قابله النجاح الذي حققته الأحزاب. والتيارات. والحركات اليمينية. واليسارية المتطرفة. هذه الحركات تتكلم لغة مشتركة واحدة، على الرغم من الطيف السياسي والآيديولوجي الواسع الذي يفصل بينها.
من يسمع جان لوك ميلانشون خطيب اليسار المتطرف الذي جمع 19.6 في المائة من الناخبين الفرنسيين، يسمع في صوته العريض نغماً من أنغام مارين «قديسة» اليمين المتطرف. كلاهما يتكلم لغة شعبوية مشتركة ضد ديمقراطية النظام. ضد بيروقراطية الاتحاد الأوروبي. ضد حكومة العولمة المصرفية. ضد الشركات الإلكترونية التي يملكها اليهود. كل هؤلاء يستجدون التروتسكي ميلانشون للتصويت لماكرون المبشر برأسمالية «نظيفة».
أنشد إيمانويل ماكرون الـ«المارسلييز». ورفع علم الاتحاد الأوروبي. فصالح الأجيال الجديدة. وعدته الأحزاب التي اجتاحها بتأمين ثلثي الناخبين له، ليتفوق على مارين بأغلبية 25 في المائة، فيما وعدتها استفتاءات الرأي بـ38 في المائة من الأصوات.
ماكرون خبير في اقتصاد السوق الرأسمالية. ومن جيل شبابي مؤيد للديمقراطية الليبرالية ضد شعبوية ترمب. وبوتين. وبشار. وخامنئي. يتحدى اليمين واليسار المتطرفين، من موقع في يمين الوسط الذي انطلق منه الرئيس جيسكار ديستان في السبعينات.
ماكرون حليف لأنجيلا ميركل قاطرة أوروبا الاقتصادية. شريك لها راغب في إدخال الاتحاد الأوروبي قاعة الإنعاش. يركز على العدالة الاجتماعية. لكنه يحتاج إلى تحويل حركته (إلى الأمام) إلى حزب ليبرالي في الانتخابات النيابية. لا يعادي ماكرون الإسلام. ويؤيد مكافحة الإرهاب.
فرنسا ليست على موعد مع لعبة بالإقدام يوم 7 مايو (أيار). ستدور المباراة بالأفكار بين تيارين: تيار منفتح. وغيتو منغلق. الحداثة في مواجهة العنصرية. التفاهم يؤسس لقيم ليبرالية جديدة ضد الشعبوية التي تهدد بتلويث البيئة السياسية.