يبحث السوريون عن سوريا ولا يعثرون عليها. يفتشون عنها مرة في آستانة وأخرى في جنيف. تحت وصايات دولية وإقليمية. يكتشفون أنهم صاروا أبناء بلاد مؤجلة. يتبادلون الاتهامات بعدما تبادلوا الضربات. ويشعرون في سرّهم أن اللعبة أفلتت من أيديهم.
الذهاب إلى الحرب قرار يتخذه أبناء البلد أو بعضهم. قرار الرجوع من الحرب شيء آخر خصوصاً بعد المشاهد المروعة والخسائر الهائلة وانهيار المؤسسات وقطع الشرايين.
ينظر السوري حوله ويرجع بيأس عميق. عيادة أحمد أبو الغيط ليست مؤهلة أصلا لاستقبال هذا النوع من النكبات. قرار استرجاع سوريا أكبر من قدرة العرب. ومستشفى أنطونيو غوتيريس ليس في أفضل أحواله. أفسد الفيتو الروسي مرات عدة محاولة بدء العلاج. انقسام كبار الأطباء لا يعد المريض بغير المزيد من الالتهابات.
ينظر العالم اليوم إلى سوريا بوصفها مجموعة من الجزر المتحاربة والمشتعلة. يعتبرها مصابة بأمراض خط التماس الداخلي وخط التماس المذهبي الإقليمي وخط التماس الدولي. ويصعب الاعتقاد أن الجزر قادرة على امتلاك قرارها وترميم الخريطة سريعاً بمعزل عمن انخرطوا في حروب الجزر السورية.
لنترك الكلام العمومي جانباً. في سوريا أكثر من سوريا. هناك جزيرة النظام الذي يسيطر على 22 في المائة. لم تتردد موسكو في القول إنها أنقذت دمشق التي كانت على وشك السقوط. طهران أيضاً لا تتردد في القول إن دماء ميليشياتها أنقذت جزيرة النظام. في تلك الجزيرة تملك روسيا بوتين قاعدتين؛ واحدة في حميميم والأخرى في طرطوس. لكن الحديث عن سوريا الروسية يتضمن مبالغة صريحة. ففي الجزيرة نفسها يملك «الحرس الثوري» الإيراني الغرفة الزجاجية في مطار دمشق فضلا عن معسكرات ومقرات قيادة للميليشيات التي أوفدتها إيران لمنع قطع الحلقة السورية من الهلال.
لو دققت في الخريطة لاكتشفت أن جزر «داعش» لا تزال تزيد على 30 في المائة. والجزر الكردية نحو 20 ومثلها جزر الفصائل المعارضة. تكتشف أيضاً أن المناطق الكردية تستضيف ثلاثة مطارات أميركية. وأن بعض الفصائل المعارضة مدرج على لائحة الدعم الأميركية الغربية والإقليمية.
لنترك الأرض إلى الفضاء. منظومة صواريخ «إس 400» تغطي معظم الأراضي السورية. لكن ذلك لا يمنع الطيران الإسرائيلي من توجيه ضربات على الأرض السورية. وهناك أيضاً طائرات التحالف الدولي الذي يضم نحو 60 دولة. الطيران التركي يدعم «درع الفرات» ويشن غارات. والطيران الأردني تدخّل. وآخر المسلسل كان غارات شنها الطيران العراقي للمرة الأولى على أهداف في سوريا.
يخطئ من يختصر الأزمة السورية بوجود «داعش». الأزمة سابقة على وجود التنظيم ومرشحة للاستمرار بعد اندحاره. صحيح أن «داعش» خلط الأوراق وعمق الميول الانتحارية وأسال أنهاراً من الدم لكن الأزمة السورية أكثر تعقيداً من اختصارها بتنظيم البغدادي.
ازدادت رحلة البحث عن سوريا صعوبة. كيف يمكن تخليص الجزر السورية من هوياتها الجديدة؟ هويات أقل من حجم الخريطة ولا تجتذب كل المكونات. يتعامل العالم اليوم مع الجزر ويبني سياساته في ضوء وجودها. وقعت سوريا في حرب أكبر منها. أين حدود الدور الروسي في هذه البلاد الممزقة؟ وأين حدود الدور الإيراني؟ والدور الأميركي؟ والدور العربي؟ وما هي قدرة السوريين على استرجاع الشراكة على امتداد الخريطة وما هي قدرتهم على ترميم الخيار السوري؟ لا بد من الاعتراف أن المكونات دفعت ثمناً باهظاً لهذه الحرب التي تدور بلا رحمة والتي شهدت ممارسات تذكّر بويلات الحرب العالمية الثانية. براميل وغازات وهجمات انتحارية ومسالخ بشرية. حجم الخسائر يجعل الجزر غير مستعدة للقبول بتسويات تقل كثيراً عن حجم التضحيات ولا تضمن منع الحرب من الوقوع مجدداً بعد عقد أو اثنين أو أكثر.
يبحث السوريون عن سوريا ويبحث العرب عنها. سوريا ليست دولة هامشية لا في تاريخ العرب ولا في حاضرهم. تبقى الأمة مصابة ما دامت سوريا ممزقة أو مستباحة. قرار سوريا يجب أن يكون للسوريين وحدهم. وما يريده العرب هو أن يعثر السوريون على سوريا السورية التي تتسع لكل مكوناتها.
TT
رحلة البحث عن سوريا
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة