تدخل العمليات العسكرية لتحرير الموصل من تنظيم داعش شهرها الرابع خلال أيام، وما زالت التساؤلات تدور حول مستقبل إدارة المدينة ومحافظة نينوى. والإجابة عن هذه التساؤلات تحمل مفتاح الفرج - أو المزيد من المصائب - لأهالي الموصل والعراق بشكل أوسع. بات من الواضح للمسؤولين في العراق والمتابعين للشأن العراقي أن «العودة إلى ما قبل (داعش)» أمر غير ممكن - وغير مرغوب فيه. فقبل يونيو (حزيران) 2014 لم تكن نينوى تنعم بالأمن أو الاستقرار. واليوم تدار ورشات عمل ويتداول المسؤولون والخبراء والمحللون نقاشات حول مستقبل حكم محافظة نينوى كمدخل لحل الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية المتشابكة والتي أدت إلى سيطرة «داعش» على ثاني مدن العراق. وهذه النقاشات تسهم إلى التوصل إلى جواب على سؤال: كيف يمكن تحقيق التعايش بين أبناء نينوى؟ ولكن في الواقع، المعضلة ليست التعايش بين أبناء المحافظة، بل في تلبية المصالح السياسية المتضاربة في هذه المنطقة الحيوية من العراق.
ومن بين الطروحات المدروسة حاليا إقامة «إقليم» لنينوى، على غرار الإقليم في كردستان العراق، على أن تصبح مدن نينوى الرئيسية «محافظات». والهدف المعلن لذلك هو منح المدن المختلفة المزيد من «استقلال القرار» في إدارة شؤونها، بينما يخشى البعض أن تكون هذه آلية جديدة لزج التفرقة بين العراقيين وتقسيم كعكة موارد نينوى، على رأسها السيطرة على الطرق الاستراتيجية على حدود إيران وتركيا وسوريا.
ومن السهل فهم أسباب انجذاب البعض إلى فكرة الإقليم، بما فيها من السماح لأهالي الإقليم للحفاظ على خصوصيتهم والحصول على صلاحيات إضافية من المركز الذي يعاني من بطء في توصيل الخدمات للمواطنين وشبكات فساد، بالإضافة إلى ضعف إمكانية العمل مما يعطل وصول الموارد التي لم تسرق.
وقد حدد الدستور العراقي كيفية إقامة إقليم من محافظة أو أكثر في العراق. وبموجب المادة 119: «يحق لكل محافظة أو أكثر، تكوين إقليم بناء على طلبٍ بالاستفتاء عليه، يقدم بإحدى طريقتين؛ أولاً: طلب من ثلث الأعضاء في كل مجلسٍ من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الإقليم.
ثانيًا: طلب من عُشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الإقليم».
وعلى الرغم من وجود هذه المادة في الدستور العراقي، فإنه منذ أكثر من عقد على إقرار الدستور لم تخض أي من المحافظات العراقية هذه التجربة. ويبقى إقليم كردستان منفردًا في الاتحاد الفيدرالي العراقي، على الرغم من محاولة عدد من الأحزاب والقوى العراقية طرح إدراج أقاليم، منها فكرة إقليم البصرة الذي رفضته الغالبية من ناخبي البصرة في انتخابات المحافظات عام 2009. السبب الرئيسي لهذا الرفض هو فشل الساسة في شرح الفائدة للفرد من مثل هذا التوجه، إذ يخشى الناخب من أن تصبح «الأقلمة» وسيلة جديدة لتفشي الفساد الإداري على مستوى إقليمي وإضعاف الدولة العراقية، فيجب تقوية المركز كي يكون لديه القدرة على توزيع القوة على أقاليمه ومحافظاته.
كما يخشى كثيرون من أن التقسيم بناء على أقاليم يخفي هدف إضعاف الهوية العراقية، مع التركيز على هويات متعددة من دون ربطها بهوية وطنية شاملة. فالتقسيم بناء على الهويات الإثنية والدينية والعرقية لن ينفع الشعوب في الحصول على حريات أو حقوق مسلوبة في حال انعدم القانون والمؤسسات التي تضمن تلك الحقوق والحريات. لا يمكن نكران أهمية الهويات المتعددة في العراق، والتي تعتبر من ثرواته لولا محاولة بعض الساسة استغلال الفروقات لتحقيق أهداف سياسية ضيقة. ولكن حماية الهويات المتعددة يأتي من خلال وسائل مختلفة، مثل حماية حق التعبير واحترام اللغات المختلفة وتعليمها في المدارس وغيرها من خطوات ملموسة لحماية الثقافات المتعددة.
لا يمكن تقسيم سهل نينوى، حيث تمتزج الأعراق والأعراف وتواريخ مكونات العراق، ولكن من الممكن إحياء السهل وذلك بإحياء الزراعة وحماية التراث وبناء مدارس ومستشفيات تخدم جميع أبناء المنطقة. لا يوجد ضمان بأن سياسيًا أو سياسية من مذهب معين سيقدم تلك الخدمات لأبناء الطائفة أو الدين المعين، ومع الأسف نرى ذلك في كثير من المحافظات ذات الغالبية الواضحة من طائفة أو عرق معين من شمال العراق إلى جنوبه. التقسيم ليس ضمانًا، بل العمل على المؤسسات الضامنة لحقوق الفرد، بغض النظر عن هويته أو هويتها، يبقى أساس الحكم ولا يمكن تعويضه بنظام مركزي أو غير مركزي. الأقاليم أو المزيد من الفيدرالية آلية وليست غرضًا بحد ذاته.
القضية الأساسية في هذه المرحلة هي ضمان استقرار الموصل وإعادة النازحين إليها ومحاسبة من يجب محاسبته على جريمة تسليم الموصل إلى «داعش». وبينما هناك من يريد أن يتهم جميع أهالي الموصل بـ«التواطؤ» مع «داعش»، هناك مجرمون معروفون لدى أهالي المدينة تواطأوا مع «داعش» ومن قبلها عصابات إجرامية. يطالب أهالي الموصل ونينوى بمحاسبة هؤلاء قبل غيرهم. ويجب أن تكون هناك عملية واضحة لمحاسبة المجرمين وإعادة تأهيل من يريد إلقاء السلاح. وهذه ليست بالعملية المستحيلة، إذ هناك عمليات سابقة ممكن التعلم منها من دول مثل رواندا وكولومبيا وآيرلندا الشمالية. عملية المحاسبة يجب أن تكون من أجل العدالة وليس من أجل الانتقام، وعملية إعادة الإعمار يجب أن تكون بناء على إعادة تأهيل المجتمع وإعمار المدن لتخدم مواطنيها وليس فقط لملء جيوب المقاولين والبعض من الساسة.
وبينما تكتب هذه السطور، يبقى الساحل الأيمن، تحت قبضة «داعش»، بعد تحرير الساحل الأيسر. ما زال 750 إلى 850 ألف مدني عالق في الساحل الأيمن من الموصل، يعانون من ويلات الحرب والحصار وجرائم «داعش»، بينما النازحون من الساحل الأيسر لا يستطيعون العودة إلى منازلهم، ومناطق نينوى الأوسع تشهد الصراعات السياسية والأمنية التي غالبًا لا تضع مصلحة المدنيين في المقدمة. كل الطروحات حول «الفيدرالية» و«الأقلمة» والحصص السياسية لا تعني هؤلاء، ولكنها مهمة عند النظر في حلول متوسطة الأمد، ويمكن التخطيط لها بعد إعادة نوع من الحياة الطبيعية للمدنيين تساعدهم على الخوض في التفاصيل الضرورية لتقرير مثل هذه الخطوة التاريخية.
الحل في إدارة نينوى يجب أن ينبع من حل يحمي الجميع ويفتح الطريق لتعايش سلمي يتعطش إليه أبناء الرافدين.
5:33 دقيقه
TT
هل الحل بإقامة الإقليم في نينوى؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة