منذ أكثر من ألف سنة وجبل لبنان يلعب دور الملجأ «الأقرب إلى (الغيتو) الجماعي» للأقليات الإثنية والدينية المضطهدة في الشرق الأوسط. من هنا تأتي أهمية النظام المسمى بالديمقراطي في لبنان الحديث، فهو لا يمثل تراثًا تاريخيًا للبلد بقدر ما يشكل ضمانة لتعايش العائلات الروحية اللبنانية، وفي الوقت نفسه آلية سياسية تحول دون تسلط طائفة ما على حقوق غيرها.
انطلاقًا من هذه الخلفية لنظام لبنان الديمقراطي، وفي مرحلة - داخلية وإقليمية - يتعذر فيها إلغاء الطائفية السياسية، كان يفترض في مناقشي القوانين الانتخابية المقترحة للبنان أن يبدأوا بتأمين تمثيل متساوٍ لكل الطوائف اللبنانية قبل التمثيل الأصح الذي يدعو إليه مروجو القوانين الانتخابية المطروحة حاليًا.
أسوأ ما يمكن أن يهدد مفهوم «الغيتو الجماعي» بالانهيار أن تسعى أي من أقلياته المذهبية إلى التحول إلى «غيتو» متميز فيه، أو «سوبر» طائفة، في بلد يعرف الجميع أن الكل أقليات فيه. خطورة الخروج على مفهوم كونفدرالية الأقليات في لبنان لا تكمن بما تثيره من حساسيات داخلية، بقدر ما تغري القوى السياسية الخارجية بالتدخل في الشأن اللبناني، سعيًا لبسط نفوذها على لبنان.
هذا الواقع عاشه لبنان عام 1860 وعام 1975، واختبر أبعاده المدمرة على التعايش الأهلي ومفهوم «لبنان وطن الجميع». وقد لا يكون من المبالغة بشيء الملاحظة بأن خلفية بعض النقاشات الدائرة حاليًا حول قوانين الانتخاب المقترحة لا تخلو من شحن مذهبي لا يبشر خيرًا بمستقبل «الغيتو الجماعي» في لبنان.
من هنا تأتي أهمية العودة إلى اقتراح اتفاق الطائف - الذي صار دستورًا للبنان - إنشاء مجلس للشيوخ تتمثل فيه الطوائف اللبنانية بالتساوي ويكون المرجع التشريعي الأخير للبلاد، فيوم تشعر الطوائف اللبنانية، كبيرها وصغيرها، أن حقوقها مضمونة على صعيد أعلى هيئة تشريعية في البلاد، يسهل عليها تقبل نظام انتخابي للمجلس النيابي قد لا يكون على مستوى تطلعاتها السياسية.
منطق المرحلة السياسية الراهنة يفترض أن ينطلق إقرار أي قانون انتخابي جديد من التسليم بضرورة إيجاد جامع مشترك لكل اللبنانيين، أي مجلس يتساوون فيه على الصعيد التشريعي، وإن ظلوا غير متساوين على صعيد الحقوق السياسية والإدارية.
هذا على الصعيد النظري؛ أما على صعيد الواقع الراهن فإن من المستغرب في دولة يعلم أولياء الأمر فيها أن قرارها السياسي مصادر بالصواريخ، وأعدادها المتزايدة باطراد، أن تسعى طائفة ما إلى الاستقواء على غيرها بقانون انتخاب «يحسن نوعية التمثيل المذهبي» في الظاهر، وموقعها السياسي في الباطن. والأغرب من ذلك أن يعتبر القيمون على هذا التوجه أن باستطاعتهم إقامة «دولة قوية»، انطلاقًا من قانون انتخاب يستند إلى ما يفرق اللبنانيين أكثر مما يجمعهم؛ أي من نظام تمثيل طائفي.
كائنة ما كانت عناوين القوانين الانتخابية المقترحة (نسبية أو أكثرية أو مختلطة)، لن تكون حصيلتها مجلسًا نيابيًا «وطنيًا» بل مجلس ملي بامتياز، يمثل المذاهب والطوائف اللبنانية أكثر مما يمثل اللبنانيين.
قد يكون مكتوبًا على اللبنانيين التسليم بهذا الواقع بانتظار اتضاح التحولات العسكرية والسياسية المتسارعة في جوارهم القريب، والتي يصعب استقراؤها بعد أن أعاد الرئيس الأميركي دونالد ترمب علاقة بلاده مع إيران إلى مسيرتها السابقة لعهد باراك أوباما.
باختصار، قد يكون من تحصيل الحاصل تذكير كل القوى السياسية في لبنان أن أي قانون انتخابي يقر حاليًا سيكون قانونًا مؤقتًا... بانتظار اتضاح ميزان القوى الجديد في المنطقة.
TT
واقع الـ«غيتو» الجماعي في لبنان
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة