سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

صحافي افتراضي

الصحافيون في مصر يطالبون بوفرة من الحرية، وفي لبنان يريدون رواتبهم المتأخرة، وتعويضاتهم المترتبة على مؤسساتهم، وفي فرنسا يعتقدون أن المستقبل ليس لصالحهم. المهنة في مأزق أينما كان، لكنها في بلاد العرب أشد وطأة. وما أزمة الصحافة اللبنانية التي كانت جريدة «السفير» أولى ضحاياها المعلنة، سوى نتيجة عجز عن مواجهة التحولات وتأخر في طرح الأسئلة الحرجة. المهن التي تتساقط كأوراق الخريف كثيرة، بعضها ينقرض وغيرها تبدّل لبوسها، لكن لا شيء سيبقى على حاله. المشكلة في لبنان، بنيوية، لها علاقة بمطبوعات تديرها عائلات لم تتمكن من تحويل ملكياتها إلى مؤسسات مستقلة بتمويل ذاتي، رغم مرورها بمراحل ذهبية. من كان يتصور أن زمنًا سيأتي، يخشى فيه على «صياح الديك»، أو نصل إلى وقت يصير بمقدور الناس أن يتخلوا عن «صوت من لا صوت لهم»؟ أزمات التوريث التي غالبًا ما تفكك ولا ترمم، صارت هي الطاغية. شح الإعلانات لا يشجع على الاستمرار في مشروعات خاسرة إلا لمن يرى فيها حاجة وجدانية وشغفًا ذاتيًا. وهذا ليس زمن الرومانسيات والأشعار ولا الخطابات الرنانة.
يعرف أصحاب المهنة، ربما الأكثر حنكة من بينهم، أن مهمتهم لم تنتهِ، لكن القارئ صار أكثر تطلبًا، وأشد حساسية وقدرة على النقد والتقييم وعقد المقارنات. نجحت وسائل التواصل الاجتماعي خلال عشر سنوات، فيما عجزت عنه تلفزيونات وإذاعات وصحف مجتمعة طوال عقود، بفضل خوارزمياتها التي ترصد على مدار الساعة المواضيع الأكثر تكرارًا وطلبًا، تعدّل من أزرارها وخدماتها التي تزود مشتركيها بها، وتمدهم بما يشتهون ويرغبون.
ليست الصحافة مهنة ما يطلبه الجمهور بالطبع، لكنها حرفة خدماتية، وظيفتها الأولى تحري الحقيقة وإفادة القارئ وإرضاء شغفه في الكشف والوصول إلى المعلومة الموثوقة، تحديدًا في زمن أصبح فيه معظم المواطنين صحافيين ومعلقين ونقادًا. الاحتراف بات بسبب تفشي الفوضى، عملة نادرة، والحاجة إلى المصداقية ماسة أكثر من أي وقت مضى. كثرت مصادر الأخبار واختلط الغث بالسمين، لكن الطبيعة تعيد ترتيب توازناتها، والقارئ لن ينسى من صدقه وسيبقى يتذكر أيضًا من استغل ثقته، ومن استغفله إلى حين.
يكاد لبنان يلامس 160 سنة في عالم الصحافة. منذ «حديقة الأخبار» التي أسسها الرائد والروائي خليل الخوري إلى اليوم، عقود من التجريب والنحت في صياغة الأخبار وتدبيج المقالات، وسيل من المنشورات الصحافية المتناسلة. أجيال تتلمذ على أجيال، وما «النهار» و«السفير» و«الأخبار» و«الجمهورية» سوى حبات في عناقيد دالية امتدت لتظلل المنطقة العربية بعشرات مطبوعاتها وأنيق كتاباتها. الصحافة اللبنانية أخذت تهوي حين اعتبرت أن الممولين الذين يخطبون ودّ صفحاتها هم السند المفترض إرضاؤه، وليس القارئ هو أول اهتماماتها، وشراؤه العدد أهم أهدافها. انحرف المسار، وكان لا بد للقبطان أن ينسى الغاية أمام الإغراءات الطائية، في ظل حروب وتيارات وصراعات تتجاذب المواليد حتى سلخت عنهم بعض أطرافهم. من منتصف القرن التاسع عشر، يبدو أن الأديب أحمد فارس الشدياق كان يموّل جريدته «الجوائب» في إسطنبول من البريطانيين وخديو مصر، وعلى نهجه في البحث عن ممولين سار من بعده كثيرون. ما كان يصلح في زمن غابر، لعله لم يعد مناسبًا بعد ذلك بمائة سنة. لربما أن قواعد اللعبة تغيرت، وكان على الصحافيين أن يشقوا طريقًا جديدًا أكثر إقناعًا لقرائهم، وأقرب إلى الحفاظ على مبادئهم المهنية.
إذن ليست الصحافة ورقًا وحبرًا وخبرًا فاتنًا، بقدر ما هي في جوهرها مهنة تنهل من الحرية وتبتكر أساليبها وهي تستقرئ الأرض التي تنبت فيها، لتشكل الرأي العام بفضل تنوع منابعها ووجهات نظر محرريها. لم يكن لبنان ليتبلور كوطن تعددي، لولا أصوات صحفه وسيمفونيات كتّابه المتنوعين والمغردين، حتى قبل أن يفتح «تويتر» صفحاته لطيور السماء على غاربها. مطبوعات أبنائه المهاجرين في الأميركتين وأوروبا وكل بقعة ذهبوا إليها زادت إلى رصيده ما بقي يتغذى منه لسنوات طوال. المضمون في الصحافة هو المهم، النكهة التجديدية هي الأساس، إدهاش المتلقي والرد على متطلباته، سر النجاح. طرح الأسئلة على الصحافة اليوم بدل ادعاء العثور على إجابات، كما يريد كيفن كيلي، المستشار في الشؤون المستقبلية للمخرج السينمائي ستيفن سبيلبرغ، هو من أصعب المهمات. استسهال التشريح لا يعني أننا أدركنا مكامن الضعف، وسرّ المرض.
المهنة في العالم كله في طور إعادة الاختبار والتجريب. وإلى الأخطاء التي ارتكبت في النصف الثاني من القرن الماضي، تضاف التحولات التكنولوجية في العقد الأخير، وما يتوقع مستقبلاً، حين تصبح كل الأسطح حولنا شاشات تفاعلية، والبشر مدعّمين بأجهزة أكثر ذكاء بأضعاف مما هي عليه اليوم. هذا ليس من باب رمي اليأس في قلوب من يجتهدون لأجل صحافة أنجح وأنجع، وإنما للقول إن زمنًا يتم العمل فيه على برامج تدبّج المقالات وتكتب الروايات، لا يعني أن الصحافي قد مات، لكنه بالتأكيد دخل في طور مهني آخر، ليس له سابق ولا مثيل، وهو ما يستحق منه متعة المغامرة.