يكاد يتفق الجميع، لغويين وكُتابا ومثقفين ورجال إعلام، على أن العربية ليست في أفضل أحوالها، مهما كانت الأسباب التي يختلفون حولها، سواء أكانت تعليمية، أم إعلامية، أم متعلقة بطبيعة اللغة العربية نفسها، وبالذات فيما يخص قواعدها، وصرفها، ونحوها. لكن الأمر أبعد من ذلك في اعتقادنا.
أعضاء المجمع اللغوي الذي يعقد الآن جلساته في القاهرة، وهو مجمع عربي وليس مصريًا على الرغم من اسمه، يعد الآن لمشروع قانون سيرفعه للجهات المختصة تحت اسم «سلامة اللغة العربية». وهو يذكرنا بقانون لصدام حسين، حمل الاسم نفسه، وشرعته الحكومة العراقية عام 1977. وهو يلزم الوزارات وما يتبعها من الدوائر الرسمية وشبه الرسمية والمؤسسات والمصالح والشركات العامة، وكذلك الجمعيات والنقابات والمنظمات الشعبية بالمحافظة على «سلامة اللغة العربية»، واعتمادها في وثائقها ومعاملاتها، وجعل «اللغة العربية وافية بأغراضها القومية والحضارية»، واعتماد اللغة العربية لغة للتعليم. وهو يوصي هذه الجهات ومؤسسات النشر والإعلام بأن «تحرص على سلامتها لفظا وكتابة وتنشئة الطلاب على حسن التعبير والتفكير بها، وإدراك مزاياها والاعتزاز بها».
ماذا كانت النتيجة؟ لا شيء، سوى منع نشر الشعر الشعبي في العراق، الأمر الذي تراجعت عنه السلطة، لاحقًا، مستغلة الشعر الشعبي في دعايتها الإعلامية لتجييش العراقيين أثناء حربي الخليج الأولى والثانية.
ثم، ما ذا تعني «سلامة اللغة العربية»؟ وما المعايير التي يجب الالتزام بها لتحقيق مثل هذه «السلامة اللغوية»؟
لا يوجد في الدنيا أي قانون يمكن أن يفعل ذلك، فاللغة ليست مجرد قواعد يمكن أن نجلد الناس في حال لم يلتزموا بها، كما في أي قانون جنائي، وجعلها «وافية بأغراضها القومية والحضارية». اللغة، قبل أن تكون أي شيء آخر، ظاهرة اجتماعية، وهي توجد حيث توجد الجماعة، وتتطور كما يتطور الناس، وتتقهقر حيث يتقهقرون. هي ليست مجرد قواعد وألفاظ وإشارات، بل هي الواقع العملي لفكرنا ووجداننا ومشاعرنا. لقد ازدهرت العربية مع ازدهارنا الاجتماعي والثقافي، خصوصًا في العصر العباسي، وهي الآن تعاني من أوجاع كثيرة، مثلنا تمامًا. لن ينفع أي قانون لمنع ذلك. فالعلة تكمن فينا، في تراجعنا، وجمودنا، وسكوننا في عالم متقدم علينا بسنين ضوئية.
تقدمنا الاجتماعي والثقافي هو الذي سيرفعنا، وبالتالي يرفع وسائل تعبيرنا اللغوي، أدبيًا وعلميًا. لا يوجد مجتمع مغلق إلا وانغلقت لغته عليه، أو تمردت عليه، أو تشظت قطعًا كما يحصل الآن.
للأسف، ذهنية مجامعنا اللغوية، كما نتبين من المداخلات المنشورة في هذه الصفحة، لم تتغير إطلاقًا. فهي لا تزال ترى أن «اللغة العربية هي أقدر اللغات على استيعاب كل جديد»، من دون أن نرى هذا الجديد معكوسًا في القواميس والمعاجم التي تصدرها هذه المجامع، كما يفعل، مثلا، قاموس «أكسفورد»، الذي يدخل سنويًا عشرات المفردات الأجنبية لتصبح جزءًا من اللغة الإنجليزية، لسبب بسيط هو أن الحياة فرضتها، فالقواميس انعكاس للحياة، وليس العكس. حراس لغتنا لا يزالون يرون أن الذنب ليس في العربية، بل في «أهلها الذين هجروها»، من دون أن يقولوا لنا أسباب هذا الهجر، وهم لا يزالون ينظرون إلى بنية اللغة، التي وضع أسسها بشر مثلهم في مراحل معينة، وكأنها شيء مقدس لا يمكن المساس به.
مثل هذه الذهنية ينتجها بالطبع، وسيظل يعيد إنتاجها، واقعنا المتجمد اجتماعيًا وثقافيًا داخل جلده عن قناعة ورضا، الساكن في حقب تجاوزها الزمن الواقعي منذ أمد بعيد جدًا.
8:2 دقيقه
TT
اللغة كما نكون تتشبه بنا
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة