فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

هل يمكن أن تخترع البشرية طريقًا ثالثًا؟

كتبنا الأسبوع الماضي، عن دورات التاريخ الماكرة، التي تبدو من السطح أنها لا تخضع لمنطق معين، ومن الصعب تفسيرها في ضوء المناهج التي ورثناها، فلكل دورة إيقاعها الخاص، الذي قد يبدو نشازا، أو خروجا عن النغمة العامة. الدورة الآن هي الدورة الشعبوية، إن صح التعبير، ولكن ماذا بعدها؟ لا أحد يستطيع أن يتنبأ. لكن الدرس الذي يجب أن نتعلمه هو أن ليس هناك قوانين ثابتة، بمعنى آخر ليست هناك آيديولوجية معينة ترتفع فوق الواقع، وتحاول أن تلوي عنقه ليتوافق معها بدل أن تتوافق هي معه، أي أن تتحول إلى علم. وهذا نادر في التاريخ.
الآيديولوجيا لا تنتج سوى غوغائيين، بينما العلم ينتج عقولا، ومفكرين، وفلاسفة، ومحللين، وخبراء. غياب هذه الحقيقة هو الذي أدى إلى انهيار آيديولوجيات كبرى في التاريخ، عمرت طويلا لكن كان لا بد أن تشهد السقوط المريع؛ لأنها كانت تتحرك خارج الواقع وتتعالى عليه، مكتفية بعملية خداع ذاتي كبرى، بقوانينها الثابتة، وقناعاتها الجامدة، التي لم تعد صالحة للهضم.
كان ماركس، على سبيل المثال، يحذر أتباعه من تحويل الماركسية إلى آيديولوجيا، فقد كان يعتبرها علما مهمته الأولى سبر الواقع العميق، المعقد، والتعرف على قوانينه للتصرف في ضوئها. وأعلن عدة مرات أنه يكره الآيديولوجيا، ويقدس العلم. لكنهم حولوها إلى آيديولوجيا، حكموا باسمها طويلا، مسيئين لجوهرها ورسالتها الحقيقية. وستعرف المصير نفسه، عاجلا أو آجلا، الأنظمة التي حولت الدين إلى مجرد آيديولوجيا، أضفت عليها هالة سماوية للحيلولة دون نقدها، وتفكيكها، وتعرية ادعائها بتمثيل المقدس، وهي تسيء إليه أكثر من أعدائه.
الخطاب الآيديولوجي، سواء كان علمانيا أو حتى شعبويا أو أي شيء آخر، هو نفسه من ناحية الجوهر: بناء منظومة وهمية عائمة في الهواء سرعان ما تتصدع حين تصطدم بالواقع الصلد، وبلاغة ذات رنين عال تتوجه للمشاعر والعواطف، البدائية غالبا، وتسويق، غامض متعلق بمستقبل غير منظور، وتجييش الكتل الهلامية حول أعداء مفترضين، في الداخل والخارج، وتصعيد المكبوت فيها عبر مخاطبتها بما تريد، وبالتالي تجميد العقل عندها في أقل درجاته، مما يسهل السيطرة المعنوية عليها، وقيادتها وهي شبه مخدرة.
الدورة الشعبوية الحالية لم تولد فجأة. كانت تمور في رحم البشرية منذ سقوط المنظومة الاشتراكية، وفشل اليسار، الذي تقابله الحيوية الفائقة للرأسمالية، حسب تعبير ماركس، التي تجدد نفسها حسب قوانين السوق.
كان المؤرخ البريطاني إريك هوبزباوم، يرى منذ تسعينات القرن الماضي، أن العالم فقد توازنه، بعد أن عرف فترة ذهبية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حتى منتصف السبعينات، فقد حدثت آنذاك تغييرات اقتصادية واجتماعية كبيرة، وخرج 80 في المائة من الجنس البشري من القرون الوسطى، لكن ترافق مع التراكم السريع للثروة والمعرفة، على مدى ربع قرن، انفلات هائل لقوى السوق، أدى بالضرورة إلى إضعاف الإحساس بالمصالح والإرث المشتركين.
ما الحل إذن؟ هل هناك طريق ثالث لم تخترعه البشرية بعد؟ كان فريدريك أنجلز يقول إنه ليس أمام البشرية سوى طريق واحد: الرأسمالية أو الاشتراكية، ولا طريق ثالث بينهما. لكن يبدو أن خلاص البشرية يكمن فقط في اختراع هذا الطريق الثالث، ليس بالمعنى الذي عناه توني بلير، حين كان قائدا لحزب العمال البريطاني - هو يعمل الآن على تأسيس معهد يجمع عددا من المسؤولين العمال والمحافظين السابقين لدراسة ظاهرة الشعبوية، وليته لا يفعل، فمعهد بهذا الشكل لن ينتج شيئا مهما - بل بالمعنى الذي حلم به التنويريون الكبار: طريق تتعانق فيه قيم الحرية العدالة، بدل أن تنفي أحدهما الأخرى كما حصل في المجتمعات الاشتراكية السابقة، وكما يحصل الآن في المجتمعات الرأسمالية.
هل يمكن أن تجد البشرية مثل هذا الطريق، ولو في مستقبل غير منظور بعد؟