من ضمن مفاجآت الأزمة المالية العالمية التي ضربت العالم عام 2008، أن «الكساد العظيم» الذي أعقبها لم يتسبب في ظهور الحمائية كرد فعل.
وتوحي تطورات مؤخرا أن هذا الوضع قد يتغير في ظل غياب القيادة المستنيرة والتنسيق السياسي.
فمع انهيار النتائج عقب «التوقف المفاجئ» للنظام المالي في خريف عام 2008، ومع تداعي مؤشرات الكساد العالمي، زادت المخاوف من أن تستسلم الدول لإغراء الإجراءات الحمائية التجارية لزيادة نمو اقتصاداتها على حساب الآخرين.
غير أن هذا لم يحدث لسببين رئيسيين؛ السبب الأول هو الاقتناع بأن سياسة «افقر جارك» - وهي سياسة قد تتبعها دولة ما لتحسين وضعها الاقتصادي بإلحاق الضرر بغيرها من الدول - قد ثبتت عدم فاعليتها، إن لم تكن سببًا مباشرًا للفشل على المدى البعيد، والسبب الثاني هو استعداد مجموعة قادة العشرين وقدرتها على تبني أجندة سياسات تنموية شاملة في القمة التي عقدت في أبريل (نيسان) 2009.
لكن ما أتى ثماره حينها لم يستمر طويلاً، فبدلاً من استثمار اجتماع لندن كأساس لتفعيل سياسة النمو الاقتصادي، أخذت الاقتصادات المتقدمة، واحدة تلو الأخرى، في الاتجاه للاعتماد المتنامي وطويل المدى على بنوكها المركزية. ولأن أدوات السياسة المالية، ومنها الأدوات غير التقليدية، لا تتناسب مع الحلول المستدامة للعلل المزمنة في الدول المتقدمة، لم ترق الاقتصادات الصغيرة إلى مستوى التوقعات وفشلت في تحقيق رخاء شامل.
باتت تلك الفترة الطويلة من النمو المتدني وعدم المساواة المتزايدة الآن تهدد الإجماع على العولمة والتكامل الإقليمي اللذين شغلا الفكر الاقتصادي لعقود طويلة. ونتيجة لذلك، فإن التقدم في مسار التحرر والتكامل بين الدول يبدو كأنه يصطدم بجدار.
والأسبوع الماضي، أثارت كل من فرنسا وألمانيا أسئلة علنية عن اتفاقية «الشراكة في التجارة والاستثمار عبر الأطلسي» التي يتفاوض بشأنها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وذهب المسؤولون الفرنسيون إلى أبعد مدى في حث مسؤولي الاتحاد الأوروبي على بروكسل لتعطيل المفاوضات.
علاوة على ذلك، فإن اتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادي»، وهي اتفاقية التجارة التي وقعتها الولايات المتحدة مع 11 دولة آسيوية في فبراير (شباط) الماضي، لن يجري التصديق عليها على الأرجح في ضوء عدم وجود رغبة حقيقية داخل الكونغرس الأميركي لإبرام مثل هذا النوع من الصفقات.
ليست فقط ترتيبات التجارة الحرة الجديدة هي التي تعرقلت، فقد أظهر التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في يونيو (حزيران) الماضي، أنه حتى الاتفاقيات القديمة والسارية بالفعل لم تعد مضمونة هي الأخرى. وفي غضون ذلك، فقد أغضب قرار المفوضية الأوروبية الأسبوع الماضي بفرض ضريبة 14 مليار دولار على شركة «آبل»، الحكومة الآيرلندية التي كانت قد توصلت إلى اتفاق مبدئي مع الشركة، وكذلك مع المسؤولين الأميركيين.
تخضع كل تلك الأحداث لتأثيرات قوة كبيرة مشتركة، وهي عدم الرضا الشعبي بقبول النمو المتدني وحالة عدم المساواة المتنامية، وكلاهما زاد من شعبية حركة المعاداة للمؤسسات المتبنية للسياسات الوطنية.
فالساسة التقليديون - الذين يسعون لتقليل المخاطر التي تعترض إعادة انتخابهم - يبررون استخدامهم نغمة الاعتراف وتأصيل قوى الحمائية المتزايدة بالجدال، بأن الضربات الموجهة للتجارة العالمية والاستثمارات العابرة للحدود سوف تكون أكثر قوة وضررًا في حال وصل أصحاب الحركات المعادية للمؤسسات إلى السلطة.
على المدى القصير، تمثل تلك الحركات رياحًا معاكسة للتجارة العالمية والنمو. وللتقليل من النتائج العكسية يتحتم على الدول العمل على تعزيز الاتحاد بينها، ولنبدأ بمجموعة العشرين، حيث يتحتم عليهم الإعلان عن التزامهم بتبني إجراءات تفصيلية تتسق مع الخطابات والالتزامات التي تبنوها في اللقاءات السابقة. بيد أن هذا غير مرجح الحدوث، نظرًا لأن كثيرا من قادة الدول سيجدون أنفسهم مكبلين بالمناخ السياسي المفعم في بلادهم. وبدلاً من ذلك، فإن الأجندة السياسية في أوروبا والولايات المتحدة تعني أنه علينا أن نتوقع تحولاً أكبر، خصوصًا على المدى القريب، بعيدًا عن التكامل العابر للحدود، سواء داخل منطقة معينة أو خارجها.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»