عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

قضمة أكبر من حجم التفاحة

أتيحت للخزانة الآيرلندية 11 مليار جنيه إسترليني (14.7 مليار دولار) رقم يفوق مداخيل بلدان بأكملها كضرائب وجهت مفوضية الاتحاد الأوروبي شركة آبل Apple لدفعها.
الحكومة الآيرلندية لا تريد هذه القضمة الكبيرة من التفاحة.
لم يفاجأ المراقبون برفض جمهورية آيرلندا بل توقع الاقتصاديون هذا الموقف قبل أي تصريحات لمسؤولين آيرلنديين للصحافة.
وقد يلاحظ القارئ العزيز كيف تتهافت حكومات في روسيا وفرنسا وبريطانيا، مثالاً لا حصرًا، على استمالة وإرضاء ممثلي شركات ومؤسسات عالمية لتوقيع عقود تقل عن ثلث المبلغ الذي ترفض آيرلندا قبوله من آبل.
الاستثناء من المعلقين، كانت أقلية من «الطبالين والزمارين» لأوتوقراطية الاتحاد الأوروبي، اتهمت وزارة المالية الآيرلندية بالتواطؤ مع شركة آبل للتحايل على اللوائح الضرائبية. المضحك في بليته أن المالية الآيرلندية تطبق اللوائح الضرائبية بحذافيرها ولم تخرق أية قوانين.
الحكاية أن مفوضية الاتحاد الأوروبي اتهمت شركة آبل العملاقة التي تصنع أجهزة الكومبيوتر والجوال والآيباد وغيرها، باستغلال ثغرات في النظام الضرائبي لآيرلندا، وبلدان أوروبا للتهرب من الضرائب على الأرباح التي جمعتها من بيع منتجاتها من مصنعها في آيرلندا وأيضا الخدمات المصاحبة مثل إصلاح الأدوات وقطع الغيار والمنتجات والخدمات غير المصنفة «كبضائع» (الرسوم الجمركية وضريبة البيع تطبق على البضائع) أو ما يعرف بـapplications أو اختصارها App في الأجهزة الإلكترونية المحمولة والهواتف الذكية لتقدم خدمات لا يمكن حصرها، كمواعيد القطارات والسفر ومتابعة مسار الطائرة راداريًا على الخريطة أو مكان لركن السيارة ودفع مصاريف الانتظار، أو متابعة لحظية للأرصاد الجوية وحركة البورصات والعملة أو معلومات من المكتبات للباحثين والدارسين أو حتى الاستشارات الطبية كقياس درجة الحرارة والتنفس وتنبيه الطبيب على بعد عشرات الأميال من المريض. آبل ليست الوحيدة في السوق لكنها مهدت طريق هذه الخدمات العابرة للحدود، وهي اتهام المفوضية الأوروبية بأن تعدد مراكز الشركة في الفضاء الوهمي أتاح لجهازها المحاسبي فرصة التهرب من دفع الضرائب.
الصحف في تعليقاتها انقسمت (حسب توزيع القراء، فالصحافة الحرة في مجتمعات حرية السوق والديمقراطية تفصل موقفها في افتتاحية الصحيفة leader article على مزاج القراء الذين يشترون الصحف التي تتفق ورؤيتهم للعالم ومصالحهم الاقتصادية والاجتماعية، ودون قروش القارئ تفلس الصحيفة). انقسمت الصحف بنسبة واحد إلى ثمانية. قسم يساري (قراء ومحررو هذه المجموعة خريجو الجامعات العليا وأبناء الطبقات الميسورة والأثرياء) يدعم موقف المفوضية الأوروبية لسببين: تأييدهم بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي كيوتوبيا حلم بها الاشتراكيون الأوائل كروبرت أوين (1771-1858) مؤسس التعاونيات اليوتوبية «مجتمعات الوفاق الجديد»، وفريدريك ويليهام رايفيزين (1818- 1888) أبو المصارف التعاونية الاشتراكية، حيث لعب اقتصاده دوره في فكر معاصره كارل ماركس (1818-1883) مؤسس النظرة الماركسية التي يحلم اليسار الأوروبي بتجربتها مرة أخرى بعد تكرار فشلها. يرى اليسار في الاتحاد الأوروبي بعثًا للاتحاد السوفياتي السابق في ثوب جديد حيث تدير مفوضية بروكسل المجتمع لا بتملك وتأميم وسائل الإنتاج (يدعون إلى تأميم الخدمات فقط) وإنما باستخدام اللوائح والسياسة الضرائبية لفرض مؤسسة البيروقراطية سيطرتها على الجميع أفرادًا وشركات وجماعات. فمثلاً اليسار وحركة البيئة الخضراء تحث الحكومة على فرض ضرائب باهظة على السيارات لمنعها من السير في شوارع لندن وتغريم أصحاب السيارات القديمة. أصحاب المعاشات ليس في قدرتهم ماديًا دفع الضرائب أو شراء سيارات جديدة وعمال الخدمات في حاجة لسيارة لنقل أدواتهم وبالتالي يضيفون الضريبة على الفاتورة التي يقدمونها لأرملة مسنة عند إصلاح ماسورة في مطبخها. سياسة لو طبقت ستؤدي لتضخم وكساد اقتصادي. بينما لا يدعو هذا التيار، بما فيهم أحزاب البيئة الخضراء إلى معاقبة متلفي الشجر، ولا يريدون التوسع في زرع الأشجار (عدد الأشجار التي يزيد عمرها على مائة عام في مناطق وسط لندن أقل اليوم من ربع عدد الأشجار نفسها عام 1970) لأن كل شجرة ضخمة تمتص من ثاني أكسيد الكربون وتنتج من الأكسجين يوميًا ما يزيد على تلويث محركات خمس سيارات.
ثمانية أضعاف هذا التيار في الصحافة انتقد الاتحاد الأوروبي أيضًا من منطلقين: الغالبية العظمى من القراء كانوا من داعمي استقلال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، لكن السبب الأكبر هو الواقعي الذي دفع الحكومة الآيرلندية إلى رفض تسلم مبلغ يسيل له لعاب ملك القناعة والزهد لو كان لهما مملكة.
لماذا مثلا تلجأ حكومات بسياسات مالية واقتصادية ذكية إلى تعمد ترك ثغرات في لوائح الضرائب وتقدم تسهيلات لمستثمرين كشركة آبل؟
آبل في السنوات العشر الماضية توظف 6000 في آيرلندا توظيفًا مباشرًا.
نوعية العاملين في القطاع من كبار مهندسي الإلكترونيات ذوي المهارات العالية يحصلون على مرتبات أعلى من المتوسط العام (مما يعني قدرة إنفاقية عالية تروج السوق الاستهلاكية وقطاع الخدمات أيضًا يدفع ضرائب دخول عالية). كما أن هذه النوعية من العمالة المتخصصة كانت ستهاجر خارج آيرلندا لمناطق هذا النوع من الصناعة (وادي السليكون في كاليفورنيا ونظيره الإنجليزي في كمبريدج).
هذا النوع من الاستثمار في صناعات تكنولوجيا متقدمة تروج أربعة أضعاف من الصناعات المغذية (أي المادة الخام وقطع الغيار ومكونات التصنيع) والصناعات المتفرعة المكملة والممتدة مثل النقل والتعبئة والتصدير.
أما أرقام الإنتاج نفسها فتدخل في إجمالي الناتج القومي الآيرلندي وترفع من قيمة الصادرات الآيرلندية كمًا وكيفًا لتضع البلاد في مصاف الدول المتقدمة اقتصاديًا وتزيد قيمة عملتها وترفع معدل ثقة المستثمر العالمي في سوقها.
ولذا فالتضحية بالمبلغ الهائل هي أكثر من مجرد رفض لتدخل المفوضية الأوروبية في شؤون آيرلندا، ورفض الأجندة الاشتراكية التي تخيف المستثمر الرأسمالي، بل سياسة حكيمة على المدى الطويل. لأن ذبح الإوزة للحصول على 14 مليار دولار سيحرم الأجيال المقبلة من بيضها الذهبي اليومي لسنوات طويلة، فعشرات البلدان الأخرى سترحب بالشركة وتمنحها امتيازًا لنصف قرن بإعفاء ضريبي تام، طمعًا في جني فوائد مثل التي تجنيها آيرلندا.
المعركة القانونية المستمرة اليوم بين شركة آبل (والتي تدعمها الحكومة الآيرلندية في هدوء) والاتحاد الأوروبي ترفع رايات التحذير لشركات عالمية أخرى في وضع آبل، لكنها أيضا تفتح بابًا لبلدان كمصر، وبلدان عربية وأفريقية تشكو من البطالة وقلة الاستثمارات.
مجرد مفاوضات لتوقيع عقود بإعفاءات ضريبية وتسهيلات وتعهدات بعدم السير في طريق مفوضية بروكسل ستجذب الاستثمارات القلقة على مراكزها في أوروبا؛ أم ستفضل هذه الحكومات ومسؤولوها الاستمرار في التسول وقروض صندوق النقد الدولي لدفع فوائد القروض الحالية؟