فشلت محاولة الانقلاب التي قام بها مجموعة من الجيش التركي، مؤخرا، لعدة أسباب منها الانقسام في الجيش وتكرار الأخطاء.
كذلك لعبت وسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات عبر الهاتف المحمول دورا مهما، ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي ساعدت فيها تلك الأدوات المواطنين في التعبير عن إرادتهم وإعلان قرارهم فيمن يجب أن يحكمهم.
وطبقا للمعلومات المتاحة، حاول الضباط المتمردون ذوو الرتب العسكرية المتوسطة تنفيذ قواعد اللعبة للقيام بانقلاب عسكري، فيما كان يسمى في السابق «انقلاب العقداء»، على عكس نمط الانقلابات التي يقودها كبار جنرالات الجيش. قام الضباط بإغلاق طرق المواصلات، وحاولوا السيطرة على البرلمان والمقار الرئاسية، وحاولوا اعتقال كبار الضباط، بمن فيهم الرئيس رجب طيب إردوغان وغيره من كبار القادة العسكريين. سيطر المتمردون كذلك على وسائل الإعلام، واستخدموا التلفزيون الحكومي لإذاعة رسالتهم وإعلان النصر قبل أوانه.
أدرك المحرضون سريعا أن هذا النهج الكلاسيكي ليس كافيا، وتحركوا للسيطرة على قنوات التلفزيون الخاصة، وأغلقوا حتى مكتب «سي إن إن» في تركيا، في مشاهد حيّة شاهدها العالم. الغرض من كل هذا كان تقليديا؛ فبمنع الناس من الوصول لمصادر إعلام بديلة سيتمكن المتمردون من السيطرة على الأخبار بإملاء المعلومات التي تخرج من تركيا وترجمتها. وبسيطرتهم على مصادر الخبر كانوا سيتمكنون من بث المزيد من القوة في مجموعتهم الصغيرة من المتمردين وإقناع غيرهم، خاصة باقي فصائل الجيش، بالانضمام إليهم.
غير أن الانقلابيين فشلوا في تطوير قواعد لعبة الانقلاب بشكله التقليدي، وفاتهم فهم تكنولوجيا مواقع التواصل الاجتماعي والهواتف المحمولة. ونتيجة لذلك، جاءت محاولاتهم للسيطرة على المعلومات المتاحة للمواطنين العاديين جزئية، فغرقت رسالة هؤلاء الانقلابيين سريعا وسط طوفان وسائل الإعلام المحلية والعالمية الأقوى تأثيرا والأعظم قدرة على التضخيم، ولذلك تبخرت سريعا ميزة المفاجأة التي تمتع بها الجيش في البداية.
وفي غضون ساعات من بداية الانقلاب، استخدم إردوغان خاصية التصوير في هاتفه للتواصل مع الشعب، وحثهم على النزول للشارع والوقوف في وجه المتمردين. جرى تضخيم رسالته على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل «فيسبوك» و«تويتر»، مدعومة بصور تظهر الناس تقف في وجه الدبابات وعلى ظهرها.
لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورا مهما في متابعة الدعم الشعبي والدولي للرئيس ولحكومته الشرعية والمنتخبة بشكل ديمقراطي. جاءت رسائل التأييد أيضا من بعض منتقدي السياسة الداخلية لإردوغان، حيث استخدموا موقع التواصل «تويتر» لإدانة الانقلاب الذي قالوا إنه لن يجلب لهم التغيير الصحيح الذي ينشدونه.
وأعلن القادة الأجانب، ومنهم الرئيس الأميركي باراك أوباما، عن دعمهم للديمقراطية التركية ولإردوغان. جاء الخطاب الدولي والمحلي ليفعل ما هو أكثر من إشباع فضول المواطنين الأتراك بدحضه للرسالة التي حاولت مجموعة صغيرة من الضباط الذين سيطروا على إعلام الدولة وبعض المرافق المهمة أن تنقلها للناس؛ إذ أضعفت من محاولة المتمردين فرض سياج وحالة من التعتيم. فقد شجع تدفق المعلومات المواطنين الأتراك ومنحهم القوة والحافز في مواجهة المتمردين ودباباتهم.
انتقل الناس من حال المتلقي السلبي إلى حال المتفاعل المشارك في صياغة حاضر ومستقبل بلاده. وبالتصدي للمعلومات التي تذيعها وسائل الإعلام المختطفة، استطاع الناس منع تلك المجموعة الصغيرة من الضباط من ذوي الرتب الصغيرة من تحويل مزاعم الانتصار الاستباقية إلى واقع.
اصطف عدد كبير من الأتراك لعمل ما كان يخشاه الجيش الزاحف، حيث جموع المدنيين تمنع تقدم الجيش ليواصل ما جاء من أجله. نقلت الصور في مواقع التواصل الاجتماعي قوة الناس ليشاهد الجميع سواء داخل تركيا أو خارجها مشاهد الجموع تتصدى للجنود المتمردين في الشوارع، في إشارة دلت على هزيمة المتمردين وعلى تبخر الأمل في انتصارهم في النهاية.
وعند استشعارهم الهزيمة، بدأ مئات الجنود في الاستسلام وأزيلت الحواجز من الشوارع، وأظهرت الصور التي ملأت مواقع التواصل أن الناس أصبحوا مجددا عازمين على لعب دور في تحديد مستقبلهم السياسي وطريقة حكمهم وشخص من يحكمهم.
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي تلعب فيها وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف المحمولة دورا مهما في التأثير في الأحداث وفي السماح للمواطنين العاديين للعب دور محوري في منع فئة قليلة من فرض إرادتها عليهم وتحديد مصير الأغلبية. لم تكن تلك المرة الأولى التي تنتصر فيها إرادة الناس بمساعدة التكنولوجيا. على سبيل المثال، حدث في عام 2011 وعام 2013 أن ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي ملايين المصريين العاديين في إبهار العالم بعملهم الجماعي، عندما خرجوا للشوارع ليقرروا طريقة حكم بلادهم.
فبالمساعدة في إجهاض الانقلاب على حكومة منتخبة بطريقة شرعية، دعمت وسائل التواصل الاجتماعي الديمقراطية. وهذا هو الوجه الآخر للاستخدام التراجيدي للتكنولوجيا نفسها التي توظف للتأثير في المحرومين ودفعهم إلى التطرف.
سوف يسجل التاريخ أن الضباط الأتراك الانقلابيين وأتباعهم قد فشلوا في فهم كيف أن مواقع التواصل الاجتماعي قد غيرت من الآليات والوسائل التقليدية للانقلابات العسكرية. فقد ساهمت تلك المواقع في تحاشي نتائج قد يكون أقلها خلق حالة من عدم الاستقرار في إحدى أكبر الدول الأوروبية، وعضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهذا أحد «الآراء الخبيرة» التي لم يتوقعها أحد. التحدي الذي تواجهه تركيا الآن هو أن تتبنى تعزيز الديمقراطية في البلاد ومؤسساتها الشرعية باعتباره نتيجة لمحاولة الانقلاب الفاشلة.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
TT
مواقع التواصل الاجتماعي أجهضت الانقلاب التركي؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة