إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

رسالة لندنية قوية ضد «صدام الحضارات»

صباح الخميس الماضي توجهت إلى مركز اقتراع في الضاحية اللندنية حيث أقيم، قبل أن أستقل القطار إلى مقر عملي بوسط العاصمة البريطانية.
بصراحة، قبل بضعة أسابيع لم أكن متحمسًا جدًا للاقتراع، وأنا الذي خاب أمله المرة تلو المرة خلال السنوات الـ15 الأخيرة، وفقد - أو كاد يفقد - ثقته بأهل السياسة، ولا سيما، عندما يرفعون الشعارات الأخلاقية ويتشدقون بالمثل الإنسانية. وبالمناسبة، أنا لم أنضم في حياتي إلى أي حزب، لا في لبنان ولا في بريطانيا، على الرغم من قناعاتي السياسية حتى عام 1996 عندما انتميت إلى حزب العمال البريطاني. بيد أنني جمّدت عضويتي وأوقفت نشاطي في صفوف الحزب عام 2003 على أبواب «حرب العراق»، لأنني صدمت برفض المؤسسة الحزبية الإصغاء إلى أي صوت يخالف توجهها. ويومذاك، مثل كثيرين غيري، لم أكن متعاطفًا مع نظام صدام حسين، بل كان السؤال الوحيد الذي طرحته وبإلحاح: «ماذا عن اليوم التالي؟.. ما تصوّركم لعراق ما بعد صدام حسين»؟
في حينه كان توني بلير قد التزم بمشروع جورج بوش الابن، ومن خلفه «المحافظون الجدد»، وانتهى الأمر. ومن ثم، خذل اثنين من أفضل وزرائه هما روبن كوك وزير الخارجية بسبب العراق، ومارجوري مولام وزير شؤون آيرلندا الشمالية بسبب «صفقاته» السياسية مع أنها كانت العامل الفاعل وراء اتفاقية السلام في الإقليم.
في أي حال، بعد تجربتي المخيبة مع حزب بلير، اكتفيت بالمراقبة والمتابعة والتصويت التكتيكي وفق قناعاتي. ثم بعدما فكّرت جديًا بالعودة في أعقاب ابتعاده، آثرت التروّي والتفكر أكثر. وفي تلك الحقبة، كنت قد تعرّفت إلى جيريمي كوربن، النائب اليساري المتحمّس لقضايا الكادحين والشعوب المستضعفة (ومنها طبعًا الشعب الفلسطيني)، والمناوئ العنيد للإمبريالية والعنصرية. والحقيقة أن الرجل كان وما زال صادقًا مع نفسه، شهمًا ومتواضعًا وطيبًا ومثاليًا.. ربما بصورة مفرطة. ثم إنه ما كان مطروحًا بصورة جدية كـ«مشروع زعيم» للحزب، ناهيك من أن يكون رئيسًا للحكومة. وحتى عندما بدأت حملة الترشيحات كانت ثمة صعوبة في تأمين الحد الأدنى المطلوب لترشيحه، وفي نهاية المطاف اكتمل العدد بأصوات بضعة نواب بعضهم قال صراحة إنه لا ينوي التصويت له، لكنه ضم اسمه إلى أوراق الترشيح لإتاحة المجال أمام عرض كل الآراء داخل الحزب. عند هذه النقطة، تحوّلت قوة الدفع من نواب الحزب إلى القواعد المحلية والنقابات والناشطين، ففاز كوربن في مفاجأة من «العيار الثقيل»، أمام صدمة التيارات المعتدلة داخل الحزب التي رأت أن وجود سياسي بهذه الراديكالية يعني منفى اختياريًا للحزب بعيدًا عن نعيم السلطة.
آخر مرة التقيت كوربن فيها كانت قبل بضع سنوات - أي قبل انتخابه زعيمًا للحزب - داخل مجلس العموم على مائدة غداء، وانتهى الغداء بإغلاق كوربن باب النقاش، مكرّرًا ضمنًا منطق بعض اليسار العربي الذي أقنع نفسه بأن نظام آل الأسد حجر عثرة أمام زحف الإمبريالية الأميركية، وصخرة الصمود والتصدي، ومنصة تحرير فلسطين. وهكذا، من رفض زبانية بلير الإصغاء في موضوع العراق، إلى وصولي لطريق مسدود مع كوربن في شأن سوريا.. بردت حماستي تمامًا لأي التزام حزبي.
ولم يطل الوقت حتى جاء مثال أوضح وأسوأ عبر المحيط الأطلسي مع انكشاف كل أبعاد «سياسات» الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي صوّر نفسه رافعًا لراية الليبرالية والتقدمية وحاملاً شعلة التغيير ضد اليمين الجمهوري المحافظ. ذلك أن محنة سوريا أثبتت لي بصورة قاطعة أن لا فارق جوهريًا بين بلير وأوباما، وأن من يرضى بزجّ العراق في المجهول لا يختلف مطلقًا عن المتآمر على شعب سوريا، وأن زيف «السياسة الخارجية الأخلاقية» التي تغنّى بها بلير لسنوات قبل أن يفضحها انسجامه مع بوش و«المحافظين الجدد»، تتكرّر الآن في واشنطن مع زيف إنسانية «طغمة» بن رودز ودينيس ماكدوناه وسوزان رايس وفاليري جاريت.. المحيطة بأوباما.
في ضوء ما تقدم، ما عدت أصدق كثيرًا ما يقوله أدعياء «التقدمية» و«الليبرالية» البريطانيون والأميركيون، ولا أتحمس لمبارزة طواحين الهواء على طريقة دون كيشوت! وبالتالي، لم أتحمس كثيرًا للانتخابات المحلية الأخيرة.
غير أن السبب الذي كان قد دفعني قبل 20 سنة للانتماء إلى حزب سياسي هو نفسه الذي دفعني قبل أيام إلى التوجه إلى مركز الاقتراع، ألا وهو الدعاية السلبية التي أتقنها عبر عقود حزب المحافظين، والتي قلما تورّع فيها عن مغازلة التيارات العنصرية والمناوئة للأجانب واللاجئين، واستنهاض عصبيات مريضة عبر إعلام فعّال لا يرحم.
عام 1996 كان المحافظون بعدما ربحوا أربعة انتخابات متتالية يهوّلون على الناخبين.. محذّرين من مغبة وصول العمال إلى السلطة بمزاعم منها أنهم سيدمّرون الاقتصاد لأن لا خبرة لديهم بالحكم (بعدما فقدوا الحكم عام 1979). كذلك كان لديهم دائمًا الملاذ الأخير والمضمون ألا وهو ورقة المهاجرين وتوافد الأجانب، وخصوصًا من شبه القارة الهندية. وهذه المرة أيضًا، عندما لاحظ مخطّطو حملة المرشح المحافظ زاك غولد سميث ارتفاع أسهم منافسه العمالي صديق خان، ابن المهاجر الباكستاني المسلم، بدأ الغمز واللمز عن «ظهوره» مع إسلاميين متطرفين. وهذا ما أغضب حتى جميما غولد سميث خان، أخت المرشح المحافظ ومطلقة نجم الكريكيت والسياسي الباكستاني عمران خان.
الصورة نفسها عادت إلى ذهني، تعزّزها النوازع الانعزالية التي نجح حزب «استقلال المملكة المتحدة» المناوئ لأوروبا والمهاجرين في جرّ المحافظين إليها، والمناخات العنصرية السيئة التي تعيشها أوروبا في أعقاب اعتداءات باريس وبروكسل. ثم ذكريات تفجيرات 7/ 7 عام 2005 في لندن، وكان ثلاثة من مرتكبيها الأربعة من مسلمي شبه القارة الهندية.
لهذا، اعتبرت أن الاقتراع غدا واجبًا، وصار فوز صديق خان رسالة لندنية حضارية إلى العالم.
وحسنًا فعلت لندن، المدينة الوقورة المتسامحة. حسنًا فعلت برفعها صوتها الحضاري المتسامح عاليًا ضد «صدام الحضارات».