توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

واتساب (2/ 2).. عتبة البيت

لا أظن أن الرجال الذين بنوا البيوت القديمة في بلادنا قد انتبهوا إلى الأهمية الفلسفية لعتبة الباب. ربما كان همهم منصبًا على الحاجة إلى حاجز يمنع مياه الأمطار مثلاً من التسرب إلى داخل البيت. لكننا نستعمل العتبة كمؤشر على الحد الفاصل بين مجال سلطة القانون، والعالم الشخصي الذي لا يخضع للقانون.
حين تكون في بيتك فإن السلطة الوحيدة التي تخضع لها هي سلطة الضمير. ليس هناك من دولة ولا قانون غير الضمير أو «النفس اللوّامة»، حسب التعبير القرآني. هذا عالمك الخاص. أنت فيه السيد والرعية معًا. لخص جون لوك الموضوعات الداخلة في الحريم الشخصي بثلاثة هي: حق الحياة، وحرية العقيدة والرأي، وحق التملك.
حماية القانون لهذه الحريات يساوي ضمنيًا حماية ذات الإنسان، لا سيما إذا أخذنا برأي ستيوارت ميل الذي رأى أن الغاية الوحيدة للحرية هي حماية الذات.
أما المجال العام فهو عنوان للنطاق المشترك بين الجميع. وهو نطاق خلقه القانون من أجل تنظيم المصالح المشتركة بين الناس. هذا أمر معروف أيضًا عند الفقهاء. فهم يميزون بين فعل المنكر والتجاهر به. حين تكسر صوم رمضان داخل بيتك فلن يعاقبك القانون. لكن لو فعلته في الشارع فأنت تحت ولاية القانون الذي يمنع التجاهر بالمنكرات.
يمثل التمييز بين المجالين العام والخاص شرطًا لعدالة القانون. القانون الذي يسمح بخرق العالم الشخصي لا يعتبر عادلاً، لأنه النطاق الأخير الذي يسمح للإنسان بأن يبلور ذاته المستقلة، المنكمشة أو المتجاوزة للحدود، دون أن يؤذي أحدًا. فيرى نفسه كما هي، دونما حجب أو اعتبارات. التحرر من رقابة الآخرين هو الذي يمنح الإنسان شعوره بالأمان المطلق، الذي اعتبره نيكولا مكيافيللي غاية نهائية للحرية.
لهذا السبب فإن قوانين العالم جميعًا تنص على حرمة المراسلات الخاصة والاتصالات الهاتفية وتمنع مراقبتها. ومثلها أحاديث الناس في منازلهم. كما تمنع اتخاذها أدلة في المحاكم، طالما لم تكن جزءًا من فعل صنفه القانون كجرم أو عدوان.
أسوق هذه المجادلة ردًّا على القائلين بجواز مراقبة المراسلات الخاصة، لا سيما على برنامج التواصل الاجتماعي المعروف بالـ«واتساب»، وهي أقوال جادلناها في مقال الأسبوع الماضي من زاوية مختلفة. المراسلات على هذا البرنامج، حتى الجماعية منها، ليست ضمن المجال العام، فهي خاصة بأصحابها ولا يشترك فيها غيرهم. مجموعات الـ«واتساب» لا تشبه الصحف الإلكترونية ولا مواقع التواصل الاجتماعي المفتوحة لكل الناس. إنها أشبه بالمجالس العائلية أو شلل الأصدقاء. ولو جازت مراقبتها، لجاز مراقبة كل جلسة أو لقاء عائلي أو اجتماعي. ولا أظن عاقلاً سيقبل بهذا.
القانون العادل هو الذي يصون الأفعال الحالية في المجال الخاص، ويمنع خرقها ومراقبتها، وليس العكس. كلنا يريد الأمن وليس الخوف. الفارق بين الأمن والخوف هو بالضبط الفارق بين أن تفعل شيئًا لأنك حر يحميك القانون، وبين أن تمتنع عن الفعل لا عن قناعة، بل خوفًا من الرقيب. زبدة القول إن تمديد سلطة القانون إلى المجال الخاص، ومن ضمنه المراسلات الشخصية، يقود بالضرورة إلى تعميم الخوف وخرق الحقوق الفردية، وهذا نقيض لواحد من أهم أغراض القانون، أعني ترسيخ العدل وإشاعة الاطمئنان وتوفير الظروف الضرورية للسلام النفسي.