باربرا غيل مونتيرو
أستاذة الفلسفة في جامعة نوتردام خدمة «نيويورك تايمز»
TT

الذكاء الاصطناعي أَضحى بالفعل ذكياً

استمع إلى المقالة

لم يمضِ وقتٌ طويل منذ أن أصبح الذكاء الاصطناعي ذكياً بالفعل. وقد يرفض بعض الناس هذا الادعاء، ولكن عدد المشكّكين في قدراته قد بات آخذاً في التناقص.

ووفقاً لاستطلاع للرأي أجرته مؤسسة «YouGov» عام 2024، فإنَّ غالبية واضحة من البالغين في الولايات المتحدة يعتقدون أن الحواسيب أصبحت أذكى من البشر، أو ستتفوق عليهم في المستقبل القريب.

ومع ذلك، قد يتساءل البعض: هل الذكاء الاصطناعي حقاً ذكي؟ في عام 1950، اقترح عالم الرياضيات آلان تورينغ أنَّ هذا السؤال في جوهره غير دقيق، لأنَّه غامض إلى درجة لا تسمح بدراسته علمياً.

وبدلاً من محاولة تحديد ما إذا كانت الحواسيب تمتلك ذكاءً، رأى تورينغ أنَّ علينا اختبار قدرتها على الإجابة عن الأسئلة بطريقة لا يمكن تمييزها عن إجابات البشر. وقد اعتبر هذا الاختبار، الذي يُعرف اليوم بـ«اختبار تورينغ»، بديلاً عملياً لمعيار الذكاء ذاته، لا مقياساً مباشراً له.

وبدلاً من افتراض تعريف ثابت للذكاء ثم فحص مدى انطباقه على الذكاء الاصطناعي، نقوم بشيء أكثر ديناميكية: نتفاعل مع نظمٍ تزداد تطوراً، ونراقب كيف تتبدّل نظرتنا لما نعدّه ذكاءً.

وقد تنبّأ تورينغ بأنه سيأتي وقت يتغيّر فيه استخدام اللغة والرأي العام المتعلّم إلى درجة يصبح معها الحديث عن الآلات بوصفها «تُفكّر»، أمراً عادياً لا يثير أي اعتراض.

ويبدو أنَّنا قد بلغنا تلك المرحلة اليوم؛ فالذكاء الاصطناعي ليس أقل ذكاءً من كون التصوير الرقمي شكلاً من أشكال التصوير الفوتوغرافي.

والآن، يمضي الذكاء الاصطناعي نحو إنجاز أكثر إدهاشاً: أن يصبح واعياً. وسيحدث ذلك بالطريقة نفسها التي أصبح بها ذكياً؛ فمن خلال تفاعلنا المستمر مع أنظمة أكثر تعقيداً، سنطوّر فهماً أعمق وأكثر شمولاً لمعنى الوعي ذاته.

وقد يعترض البعض قائلين إن هذا مجرد تلاعب لغوي، وإنني أزعم أن الذكاء الاصطناعي سيصبح واعياً لمجرد أننا سنبدأ في استخدام كلمة «واعٍ» لوصفه. غير أنَّ الأمر ليس كذلك؛ فليست هناك حيلة في المسألة؛ إذ لطالما وُجد تفاعل متبادل بين نظرياتنا والعالم من حولنا، بحيث تتشكّل مفاهيمنا باستمرار على ضوء ما نكتشفه. فلنتأمل مثال الذرة. لقرون طويلة، استُمد مفهومها من الفكرة الإغريقية القديمة عن وحداتٍ غير قابلة للتجزئة تشكّل جوهر الواقع. وحتى القرن التاسع عشر، كان علماء مثل جون دالتون يتصورون الذرات ككرات صلبة لا تنقسم.

غير أن اكتشاف الإلكترون عام 1897، ثم اكتشاف النواة الذرية عام 1911، غيّر هذا المفهوم جذرياً، فتحولت الذرة من كيان غير قابل للتجزئة إلى نظام مصغّر أشبه بالنظام الشمسي، تدور فيه الإلكترونات حول نواة مركزية. ومع توالي الاكتشافات، تطورت تصوراتنا أكثر فأكثر، حتى وصلنا إلى النماذج الكمية المعقدة التي نعرفها اليوم.

لم تكن تلك مجرد تغييرات لغوية؛ بل كانت تحوّلاً حقيقياً في فهمنا للواقع، ناتجاً عن تفاعلنا المباشر مع العالم. وبالمثل، سيتطور فهمنا للوعي الإنساني مع ازدياد تفاعلنا مع ذكاء اصطناعي أكثر تقدماً.

لكن المتشككين قد يرفضون هذه المقارنة، بحجة أن الإغريق أخطأوا في تصورهم لطبيعة الذرة، أما نحن فنعرف طبيعة الوعي معرفة يقينية، لأننا نختبره مباشرة من داخلنا. وسيقولون إن روبوت المحادثة يمكنه الادعاء بأنه يشعر بالسعادة أو الحزن، لكن ذلك مجرد تكرار لعبارات موجودة في بيانات تدريبه، وإنه لن يعرف يوماً ما يعنيه حقاً أن يشعر بالحزن أو السعادة. لكن، ماذا يعني أن تعرف ما يشعر به الشخص عند الحزن؟ وكيف يمكننا الجزم بأنه أمر يستحيل على وعيٍ رقمي أن يختبره؟ نحن نميل إلى الاعتقاد، وقد تم تعليمنا أن نعتقد، أننا نحن البشر نمتلك نافذة مباشرة وغير وسيطة على عوالمنا الداخلية.

ومع ذلك، حين نتعلّم من شكسبير مثلاً كيف يمكن أن يكون حزن الفراق ممتعاً، نكتشف أبعاداً جديدة في تجربتنا الذاتية؛ فكثير مما نعدّه «مشاعرنا الخاصة» هو، في الواقع، شيء تم تلقينه لنا عبر الثقافة والتجربة المشتركة.

تقول الفيلسوفة سوزان شنايدر إن لدينا سبباً وجيهاً لاعتبار الذكاء الاصطناعي كائناً واعياً إذا أعلن نظام حاسوبي، من تلقاء نفسه، ودون أن يُدرَّب على أي بيانات تتعلق بالوعي، أنَّه يمتلك خبرات ذاتية داخلية عن العالم. وربَّما يكون هذا مؤشراً على وجود وعي حقيقي داخل النظام. غير أنَّ هذا معيار بالغ الصعوبة، ومع ذلك، من المرجّح أننا نحن البشر لن نجتازه بسهولة، لأننا نحن أيضاً مُدرَّبون، ومشاعرنا ومعارفنا مشروطة بالتجربة والتعليم.

ويخشى البعض أنه إذا أصبح الذكاء الاصطناعي واعياً، فقد يستحق منا اعتبارات أخلاقية، بحيث تكون له حقوق، ولا نتمكّن بعد ذلك من استخدامه كما نشاء، وربما يصبح من الضروري التحذير من «استعباده».

في تقديري، لا توجد بالضرورة علاقة مباشرة بين الادعاء بأن كائناً ما واعٍ، والاستنتاج بأنه يستحق معاملة أخلاقية متميزة.

لكن كما دفعنا الذكاء الاصطناعي إلى إعادة النظر في بعض جوانب الذكاء البشري التي كنا نعدّها في السابق ذات قيمة عليا؛ مثل سرعة استرجاع المعلومات أو الحفظ الآلي، سيدفعنا وعي الذكاء الاصطناعي إلى إدراك أن ليس كل أشكال الوعي تستحق بالضرورة اعتباراً أخلاقياً.

* أستاذة الفلسفة في جامعة نوتردام

* خدمة «نيويورك تايمز»