تخيل أن مخاوفنا من الفقد، أو التعلق الزائد بمن نحب، أو حتى نفورنا من علاقات طويلة ليست وليدة اللحظة، بل يقود ذلك كله طفل صغير يقبع في وجداننا منذ عقود. ولأن ذلك الطفل لم يكبر فهو ما زال يحمل كل جراحنا القديمة، يقدمها في شكل سلوكيات معقدة، لنا ولمن يتعامل معنا. هذا باختصار فكرة «نظرية التعلق» التي أطلقها العالم البريطاني «جون بولبي».
ذلك أن الطفل بطبيعته البيولوجية يبني روابط وثيقة الصلة مع من يرعاه، مما يشكل في ذهنه خريطة داخلية عن الحب والثقة تلازمه طوال حياته. على اعتبار أن النمو العاطفي يتطلب ذلك. صاحب النظرية يرى أن هذا الارتباط ليس مريحاً للطفل فحسب، بل يعتبر «قاعدة آمنة» ينطلق منها الأطفال لاستكشاف العالم.
ما يلفت في نظرية التعلق أنها أماطت اللثام عن امتداد الطفولة في أعماقنا (ولكل قاعدة شواذ). فتجد من ينفر من الحب لأن تجارب صباه كانت مريرة في أسرة متسلطة. وهناك من يتعلق عاطفياً حد الاختناق خوفاً من أن تطارده هواجس الهجر. ولذلك ما أن يتولى هؤلاء مسؤوليات في بيئات العمل حتى يبحثوا عن القبول بأي ثمن، وربما يخشون اتخاذ القرارات الصعبة، ويميلون نحو السيطرة المفرطة لتعويض شعور قديم بفقدان الأمان.
وترى نظرية التعلق أن الناس يختلفون بطرق ارتباطهم بالآخرين. ومنها «التعلق الآمن» وصاحبها من يحب ويثق بسهولة، لأنه ترعرع في كنف أسرة مريحة وتنعم بطمأنينة الحوار. أما «التعلق القلِق» فهو التشبث خوفاً من الفقد، كمن يسأل «هل ما زلت تحبني؟». ومنه مفارقة «التعلق التجنبي»، وهو من يبتعد لئلا يُجرَح فيبدو قوياً ومتماسكاً، لكنه يتحاشى القُرب.
نظرية التعلق تكشف لنا بعضاً من خفايا سلوكيات آنية معقدة تُخفي قصصاً كبيرة عن طفولة لم تَبرَحَنا بعد.
