د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

رباطة الجأش البريطانية

استمع إلى المقالة

خيَّمت على البريطانيين أجواء ذُعرٍ؛ إذ كانوا يخشون هجوماً جوياً وبرياً كاسحاً من الزعيم النازي هتلر بعد أن اجتاحت قواته فرنسا في الحرب العالمية الثانية. فمَن تمكن جنوده من احتلال باريس ما الذي يمنعه من أن يباغت الإنجليز في عُقر دارهم ليرفع عَلم النازية في قلب العاصمة لندن؟

وفي ظل هذه الأجواء المتوترة طبعت وزارة الإعلام البريطانية عام 1939، ما أصبح لاحقاً أشهر ملصق في تاريخها، وهو (Keep Calm)، أي «ابقَ هادئاً»، إذ كان الهدف توزيع نحو 2.5 مليون ملصق فور تعرض أراضيهم لخطر داهم.

ثم اضطرت «وزارة الحقيقة»، كما يسميها جورج أورويل في روايته «1984»، إلى إعدام الملصقات لحاجاتها إلى الورق، ولم تنشر إلا في نطاق محدود، حتى عام 2000 عندما اكتُشفت في مكتبة في نورثمبرلاند النسخة الأصلية، فأُعيدت طباعتها وانتشرت في «أكشاك» السياح على الأكواب والقمصان واللافتات والقرطاسية.

تعبّر العبارة العميقة «ابقَ هادئاً وواصل» عن جذور الثقافة البريطانية، التي شكَّلت حروبها وتجاربها وعياً جماعياً بضرورة الثبات والتحمل وإظهار رباطة الجأش. هي جزء من الجمود البريطاني في مواجهة الكوارث. وقد جاءت في سياق حملة دعائية فيها ملصقان آخران هما: «شجاعتك، وبهجتك، وعزمك؛ ستجلب لنا النصر» و«الحرية في خطر، دافع عنها بكل ما أوتيت من قوة»، حسب تقرير لجامعة لندن.

هناك أيضاً مصطلح شهير وغريب في الثقافة البريطانية يدعو إلى «زم الشفتين» stiff upper lip، لكبت المشاعر، أي تحمل الألم والشدائد من دون إظهار ما نشعر به. ولذلك يندر ما ينهار الإنجليزي في مكان عام، تجده يحافظ على هدوئه. حتى إذا ما هوجم لفظياً ترك للحظات الصمت فرصة يستجمع فيها قواه وحججه قبل اختيار اللحظة المناسبة للرد. انفلات المشاعر يعد نقيصة في الثقافة البريطانية. ولذلك دائماً ما أقول إن «الإنجليزي لا يُظهِر سوى ربع مشاعره» سواء كانت مبهجة أو مؤلمة.

العرب اختصروا كل جهود البريطانيين بكلمة واحدة هي «رباطة الجأش»، ففيها الرصانة والاتزان والحزم، وفيها أيضاً الكلمة التي ذاع صيتها في جائحة كورونا، وهي «الصلابة» النفسية في مواجهة نوائب الدهر.

من بدهيات القيادة أن يُظهر ربّان السفينة والطائرة رباطة جأشه لأن اهتزاز مشاعره حتماً سينعكس على من حوله. وما إن يتسلل القلق إلى نفوس من حوله حتى تدب الفوضى.

اعتاد البريطانيون أن يروا عائلتهم المالكة دوماً بصورة رصينة وغير منفعلة، وربما هذا ما شكَّل صورة ذهنية لديهم عن جمال الرصانة والهدوء. فنحن بصفتنا بشراً لا نملك التحكم في العالم، لكننا نملك التحكم في أنفسنا.