وأنا أتأمل خريطة ألمانيا المحاطة بسبعة بلدان منها الأقوى في القارة العجوز، دار في ذهني شريط ذكريات تاريخ البلد الاقتصادي والسياسي. هذه الأمة، التي انكفأت على نفسها بعد الحرب العالمية، ما زالت تثير بي الفضول، لأن معظم المثقفين العرب تخرجوا أو عاشوا في ثقافة بلدان أنجلوسكسونية (أميركا وبريطانيا) ولم يتعمقوا في ثقافة ألمانيا وأخواتها.
ورغم أن الألمان قد خرجوا من تحت أنقاض الحرب العالمية مهزومين وابتعدوا عن سباق التسلح بعد معاهدة فرساي فإنهم نجحوا في أن يصبحوا أكثر دولة مصدرة للمنتجات الصناعية في العالم، وكان اقتصادها الأكبر في العالم، رغم صغر حجمها الجغرافي وافتقارها للموارد الطبيعية. وتسلحت بالتكنولوجيا والمهارات، وقدمت نموذجاً تعليمياً رائداً ليس فيه «هوس الجامعات» بل يمنح الشباب الواعد مهارات فنية في سن مبكرة تنتهي ببرنامج تطبيقي يخرج كوادر جاهزة للانخراط في المصانع والمعامل. ويقول جون كامفنر مؤلف الكتاب الرائع «لماذا يتفوّق الألمان؟» إن ألمانيا «لم تعتمد على استعمار الشعوب الأخرى، بل نهضت من الداخل بالاعتماد على شعبها ومواردها المتاحة».
هناك جانب اجتماعي ما زال مجهولاً. كشف عنه النقاب سفير ألمانيا لدى بريطانيا توماس ماتوسك عندما خلع رداء الدبلوماسية وقال لحشد من الإنجليز إنه صدم من هوسهم بالحقبة النازية وأن مادة واحدة من أصل كل ثلاث مواد تتناول النازية في المرحلة الثانوية (الثاني والثالث عشر). وعندما أُجرِي استفتاء للرأي لم يتمكن نحو 61 في المائة من تسمية شخصية ألمانية معروفة!
شخصياً، كنت تحت تأثير أن الإنجليز مباشرون في تواصلهم الاجتماعي وأنهم الأكثر دقة في كل شيء حتى قرأت دراسة للبروفسور هال الذي صنف الألمان على أنهم من أكثر الشعوب مباشرة في الطرح ودقة في التزاماتهم وجديتهم، وتأتي بعدهم الشعوب الأخرى (انظر مقالي بعنوان: «كيف يتفاهم العربي مع الألماني؟»).
هذا جزء يسير مما نعرفه عن الثقافات غير الناطقة بالإنجليزية والتي تتطلب منا إعادة النظر في اقتصار البعثات للبلدان الناطقة بالإنجليزية وزيادة انفتاح شبابنا على البلدان المتقدمة لنتعلم من تجربتها الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية وغيرها. كنت أتبادل أطراف الحديث مع صديق بريطاني لم يتحقق حلمه بتعلم لغة ثانية «تجعله يفهم» العالم حسب وصفه، فأخبرته بأن المملكة العربية السعودية قررت تطبيق اللغة الصينية في المدارس العامة، وأنها بدأت بإجراءات فتح مصانع سيارات صينية وغيرها، فأبدى اندهاشه وعلق بأنه قرار «عظيم»، وأضاف: «لو كنت أتحدث الصينية، لأصبحت مليونيراً بالتجارة معهم».
بالفعل هناك الكثير من الصفحات الثرية في تاريخ الأمم ويومياتها سقطت من أجندتنا لأننا نلهث وراء كل إقليم يتحدث الإنجليزية ونسينا أن النجاح ليس مقصوراً على تلك الرقعة الجغرافية.
الكتاب الذي تصفه «التايمز» بأنه «من أبرز ما كُتب بالإنجليزية مؤخراً في تقديم صورة شاملة عن ألمانيا الحديثة وسياستها»، هو مما يستحق الترجمة للعربية لنفهم ماذا يجري في هذا العالم.
