داليا عاصم
كاتبة صحافية وباحثة في علم الاجتماع الافتراضي
TT

«عبيد» السوشيال ميديا

لماذا نكتب كل شاردة وواردة في أذهاننا عبر فيسبوك وتويتر؟ ماذا نأكل.. ماذا نشاهد؟ مشاعرنا.. حزن أم فرح؟ حتى أحاديث أطفالنا لنا؟ لقاءات العمل ومقابلات الأهل والأصدقاء؟ هل أصبحنا "عبيدا" للتكنولوجيا؟ سؤال راودني كثيرا حول قدرة تلك المواقع في استدراجنا لكشف مكنونات أنفسنا وخباياها لمن نعرف ومن لا نعرف؟.. نعم، لأنك أبدا لن تعرف من يطلع على بروفايلك في هذا الزمن!
في عام 1953، أجاب الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر Heidegger عن تلك التساؤلات في محاضرة مهمة في أكاديمية "بايرن" للفنون بمدينة ميونيخ الألمانية، بعنوان "السؤال عن التقنية" حاول فيها شرح ماهية التقنية، وكيف تسيطر التكنولوجيا على الانسان، وكان وقتها يتحدث عن الثورة الصناعية وما يمكن أن تفعله بـ" بني آدم".
في الحقيقة ما كان يتحدث عنه ينطبق تماما على ما تفعله تكنولوجيا "الفضاء الافتراضي" و"السوشيال ميديا" بنا، فنحن نراها كما رأى التقنية "وسيلة يستعملها الانسان لتحقيق غاياته"، إلا أنها تستخدمنا وتحولنا إلى وقود لها؛ تتغذى على ما نكتبه والصور التي نشاركها، تتضخم وتتوسع عبر علاقتنا الاجتماعية التي نجلبها من الواقع إلى هذا الفضاء الافتراضي.
استعبدتنا مواقع مثل "فيسبوك" و"تويتر" لنصبح فيهما مجرد رصيد من الكلمات والتدوينات والتغريدات، تنكشف ذواتنا لهذه التكنولوجيا فنستمد منها مشاعر ايجابية وسلبية.. أدرجتنا التقنية بداخلها كما أصبحت عقولنا منكشفة على فضاء لا حدود له. فمن يريد أن يقرأ أفكار أي شخص يستطيع تصفح ما كتبه لمعرفة طريقة تفكيره وأسلوب معالجته للأمور وما الذي يفعله تحديدا وما الذي ينوي فعله في حياته، وهو ما سهل الأمر على الكثير من أجهزة الاستخبارات العالمية.
ويسعى العالم من حولنا لاستشراف كيفية تفاعل البشر مع مواقع السوشيال ميديا عام 2050!! وكان ذلك في بحث ضخم أجراه مؤخرا مركز أبحاث "PEW" الأميركي لمعرفة هل ستكون هناك خصوصية في ذلك الوقت؟ وغيرها من التفاصيل التي سوف تشكل الحياة عبر الفضاء الافتراضي. وأجابت نخب من المتخصصين في التكنولوجيا وعلوم الانترنت وأشخاص عاديين، بأنه لن تكون هناك خصوصية ولن يكون هناك قلق بشأنها لأن الانسان سيكون منكشفا تماما لهذا الفضاء والمتحكمين فيه ولرواده.
علينا اذن أن نؤهل أنفسنا لأن كل شيء آخذ في التغيير بشكل كبير، لقد تغير بالفعل مفهوم "الثقافة"، ومفهوم"التنشئة الاجتماعية"، حتى شكل الإبداع "الأدبي والفني"، وحتى ذلك الوقت (2050) ستتغير مفاهيم كثيرة، فهل النخب الثقافية مستعدة لذلك؟
من الغريب حقا أن البعض ممن يطلق عليهم "النخبة الثقافية" لا يزالون يتعاملون ويفكرون في الثقافة بالمعني "الأنثروبولوجي"! كيف يعقل أن نتعامل مع الثقافة من هذا المنطلق، فالإنسان بعد أن كان يتأثر بمحيطه الأنثروبولوجي من جماعات ومجتمع محلي أصبح يتأثر بمحيط آخر "افتراضي" متنوع الأعراق والثقافات يحاصر إدراكه ووعيه، بل ويحول كل ما هو واقعي إلى ذلك الفضاء فنه وإبداعه وأفكاره، فأصبح الإنسان وعلاقاته الاجتماعية بكافة مستوياتها مندرجا في هذا الفضاء الافتراضي الذي تتشكل في فضائه أنماط السلوك والممارسات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ما يجعل الإنسان خاضعا لها.
شغلتني "ثقافة الفضاء الافتراضي" منذ عام 2007 ، التي اظنها نتيجة أكبر عملية خلط واستنساخ للفكر البشري وتطويعه. وكانت محور رسالتي الجامعية للحصول على درجة الماجستير من جامعة الإسكندرية نهاية عام 2013، بحثت فيها لأكثر من 5 سنوات، وكان البحث في تطورات تلك الثقافة من أصعب ما يكون؛ فهي تفاجئنا بمستجدات كل يوم، تواكبها أبحاث علمية أوروبية وأميركية، تخرج تقريبا كل أسبوع بنتائج جديدة تطيح بالتراث الأكاديمي الذي يدرس بالجامعات والنظريات التي يعكف الأساتذة على تلقينها للطلاب؛ تلك النظريات التي كانت تدرس ظواهر اختفت وأشبعت بحثا. وكانت نتائج دراستي مثيرة فيما يخص اختفاء "فيسبوك" من حياة المستخدمين، حيث وجدت أن 57 % أي أكثر من نصف العينة سيشعرون بالعزلة، وأن نصف العينة تقريبا 50.8% قالوا إنهم سيفتقدون أصدقاءهم وزملاءهم، في حين أن 18% لا يتصورون الحياة بدونه.
على أيه حال، إن ما يجعل "ثقافة الفضاء الافتراضي" حقيقية وملموسة ومؤثرة في الواقع المعاش أو عالمنا الحقيقي real world هو المنفعة التي تحققها لنا وانعكاساتها على حياتنا اليومية؛ فقد أصبحنا منقسمين بين "ذواتنا" و"بروفايلاتنا" وما نبثه أو نضعه على "بروفايلاتنا" الالكترونية الافتراضية يؤثر بشكل كبير على حياتنا الواقعية سواء الشخصية أو العملية.
علينا الاعتراف بأننا مقيدون في تلك الشبكات الاجتماعية، فمن لا "بروفايل" له..لا وجود له! وقد يجد من ينتحل شخصيته إلكترونيا!