د. ياسر عبد العزيز
TT

«السوشيال ميديا»... ونهاية عهد الطفولة

استمع إلى المقالة

في الأسبوع الماضي، شاهدتُ على منصة «إكس» فيديو لطفلة في الرابعة من عمرها تقريباً، تتحدث فيه بلغة واضحة ومفهومة ومَصوغة بعناية؛ وتقول: «اللي بيقول إنه شافني بارقص في كافيه يوم عيد الكريسماس... أنا مش بتاعة الكلام ده والعك ده... أنا واحدة مُحترمة وعملت عُمرة... أنت عايز فانزاتي يشكوا فيَّ ويفهموني غلط... أنا واحدة مُحترمة»!

لقد حظي هذا الفيديو، عبر هذه المنصة وحدها، بنحو 624 ألف مشاهدة، مع آلاف التعليقات التي بدا معظمها مُشيداً ومُثنياً على «ذكاء الطفلة، ونُضجها، وقدرتها اللافتة على جذب الإعجاب، وتحقيق الرواج».

لكن هذا الفيديو المثير للدهشة، ومثله كثير، استدعى لديَّ على الفور التفكير فيما فعلته أستراليا أخيراً؛ حيث اتخذ برلمانها قراراً -هو الأول من نوعه- بحظر وصول الأطفال الذين تقل سنهم عن 16 عاماً إلى منصات «التواصل الاجتماعي»، وفرض غرامة تُقدر بنحو 32 مليون دولار أميركي على المنصات التي لا تمتثل لهذا القرار.

لم تستقبل بعض المنصات هذا القرار بارتياح؛ بل أعلنت معارضتها له واستياءها منه؛ وهذا أمر مفهوم، بكل تأكيد؛ لأن أنموذج الأعمال الذي تتبعه معظم تلك المنصات يستهدف الرواج والربح في المقام الأول، وهو الأمر الذي يعزز ميلها لتخطِّي أي قواعد قائمة أو مُستحدثة يمكن أن تَحَدَّ من نزعات الاستخدام، أو تفرض قيوداً على فئات المستخدمين، وما يقدمونه من محتوى.

يقول المُفكر الفرنسي فرنسوا روبيه، إن «المجتمع الذي يُهمِل تربية أطفاله هو مجتمع في طريقه إلى الزوال»؛ فليس هناك كثير مما يمكن إضافته إلى الأفكار المستقرة عن أهمية الأطفال للمستقبل، لكونهم ببساطة هم المستقبل؛ فإذا تُرك هذا المستقبل لعدد محدود من الوسائط الاتصالية لصناعته والتأثير فيه، فإن هذا المستقبل في خطر بكل تأكيد.

لطالما كان هناك سعي علمي ومجتمعي لتشخيص الأمراض والمشكلات التي تعترض الطفولة وتؤثر فيها؛ ومن ذلك أن المجتمع العلمي العالمي شخَّص أمراضاً واضطرابات نفسية للأطفال مُبكراً؛ مثلما حدث مع اضطراب «نقص الانتباه وفرط النشاط»، في مطلع القرن الفائت، و«التوحد» في ثلاثينات القرن نفسه؛ لكن الطفولة بحالتها الراهنة في عالم «السوشيال ميديا» الصاخب، تطرح مشكلات أكبر، وتُصدِّر أمراضاً أكثر.

ولعل الجهود التي بُذلت تحت عنوان «أطفال سيفورا»، من أجل توضيح انعكاسات انخراط الأطفال في أنماط استهلاكية تخص البالغين، أكبر مثال يجسد هذا الإشكال؛ فقد لاحظ العاملون في هذا المتجر الضخم، أن الأطفال باتوا يشترون سلعاً تخص الكبار؛ ومنها -على سبيل المثال- منتجات لمكافحة الشيخوخة، أو أدوات تجميل، فضلاً عن العطور الباذخة التي يتخطى ثمن الواحد منها مائة دولار.

فقد بادر كثير من موظفي «متاجر سيفورا»، في أنحاء مختلفة من الولايات المتحدة الأميركية، بالكتابة عن أنماط شراء مثيرة للجدل يقوم بها الأطفال في هذه المتاجر، وبعض هؤلاء العاملين، كتب، في مطلع عام 2024، عن فواتير شراء لأطفال تجاوزت 500 دولار، لمنتجات لم يَعتَدْ على شرائها سوى الكبار تقليدياً.

ويعتقد باحثون على نطاق واسع أن «العزلة» العائلية التي يسببها الانخراط في أنشطة «السوشيال ميديا» للأطفال واليافعين، والتي تبقيهم بعيدين عن أعين أوصيائهم، أحد أهم أسباب تفاقم أثر الضغوط والتهديدات الآتية عبر تلك المواقع؛ إذ تشير دراسات موثوقة إلى أن 4 من أصل كل 6 من الأهل في الولايات المتحدة، ليس لديهم أي فكرة عما يفعله أبناؤهم على «الإنترنت»، وأن 50 في المائة من المراهقين الذين يستخدمون الشبكة في أوروبا، لا يتمتعون بأي إشراف أو رقابة من الوالدين.

ويربط هؤلاء الباحثون بين انخراط الأطفال الحر في عالم «السوشيال ميديا»، في غيبة الأوصياء، وبين ما يُشاع عن أنماط «التربية الإيجابية أو الحديثة» التي تعترف بمشاعر الطفل، وتتخلى عن أدوات الضبط والعقاب، وترى في «نضجه السريع» علامة تفوق.

والآن... راحت وسائط «التواصل الاجتماعي» تغيِّر تجربة الطفولة بشكل لا يقبل الدحض، وبينما ما زالت الطفولة حالة قانونية في كثير من المجتمعات؛ فإنها تختفي رويداً رويداً كحالة اجتماعية وإنسانية، حتى أصبحنا نسمع عن اضطرابات وأمراض جديدة تخص عالم الطفل؛ مثل «الاكتئاب»، و«التنمر السيبراني»، والنزوع إلى الانتحار، والتورط في الجرائم الأخلاقية.

لقد كان لكل نظام اتصالي شهده العالم تحيزاته ومميزاته الخاصة، مثلما كان للتلفزيون ميزته النسبية في توفيره التجربة المرئية والمسموعة في مقابل الصحيفة أو المذياع؛ لكن النظام الاتصالي الراهن يُلغي المسافة بين الطفولة والبلوغ، بوصوله ونفاذه غير المتمايز للجميع، ودينامياته التي لا تقبل الضبط. لذلك، بات علينا الحذر من إمكانية «اختفاء الطفولة»، كما تنبأ لنا نيل بوستمان، في كتاب أصدره تحت العنوان نفسه، قبل أكثر من ثلاثة عقود.