وسط زخم من التصعيد الإقليمي والتطورات المتسارعة التي تلاحق منطقة الشرق الأوسط، ومع احتمال توسيع دائرة الحرب المتعددة الجبهات، توجه سكان إقليم كردستان إلى صناديق الاقتراع في 20 أكتوبر (تشرين الأول) 2024 لاختيار برلمان جديد.
يعرف الجميع أن المؤسسات الحكومية والسلطات التشريعية والرقابية في الإقليم فاقدة للشرعية مع غياب المؤسسة التشريعية الممثَّلة بالبرلمان، مما يعني أن العملية الديمقراطية التي كانت سمة أساسية للتجربة الناشئة في الإقليم معطَّلة إلى حدٍّ كبير، لذلك فإن الانتخابات كانت ضرورة حتمية كي يستعيد إقليم كردستان الشرعية لجميع مؤسساته ونظام إدارة الحكم المتقاسم والمناصف بين الحزبين، «الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني»، لسنين طويلة.
جاء الاستحقاق الانتخابي، في خضمّ أزمات مستعصية أرخت بظلالها على الوضع العام في الإقليم الذي يواجه كثيراً من التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية، فيما يتطلع الناخب لتحسين ظروفه الاقتصادية ومواجهة التدخلات الخارجية في شؤون الإقليم التي جعلت من مسار الحكم في كردستان ووحدته ومؤسساته على المحك، كما للانتخابات وسياقها أهمية كبيرة في تقييم مدى تحقيقها المعايير الديمقراطية الأساسية، بما في ذلك نزاهتها وشفافيتها، واعتراف الأحزاب المتنفذة بنتائجها، خصوصاً أن التغيير عبر صناديق الاقتراع أمر حتمي.
إن إقليم كردستان الذي يتمتع بغطاء دستوري ضمن الدولة العراقية الفيدرالية وتثبيت الحكم الذاتي، يعيش أضعف مراحله بسبب تعطيل المؤسسات التشريعية والرقابية والشلل الذي يصيب السلطة التنفيذية، إلى جانب الشكوك التي تحوم حول دور السلطات القضائية والمحاكم، وقد نُظمت في الإقليم الذي يُعد يتيم الدهر بالنسبة إلى الشعب الكردي المُقسَّم على دول المنطقة الأربع «العراق، وإيران، وتركيا، وسوريا» خمسة انتخابات تشريعية أشرفت عليها مؤسسات محلية كانت تابعة للجهات السياسية، لذلك كانت نتائج تلك الانتخابات موضع شك على الدوام، من حيث إنها افتقرت إلى معايير النزاهة والشفافية.
ورغم كل الشكوك، فإن إقليم كردستان تميز بتجربة ديمقراطية لأكثر من ثلاثة عقود من التعددية السياسية والقومية والدينية والفكرية، وهي ميزة أساسية وربما فريدة على مستوى بلدان المنطقة، لكنَّ الشلل الذي اعترى المؤسسات التشريعية والرقابية والحكومية في السنوات الأخيرة أدى إلى تراجع العملية الديمقراطية وانعدام ثقة كثير من المواطنين بالتجربة السياسية والتعاطي معها.
لذلك كله، فإن الانتخابات كانت فرصة ممتازة للدفع بالمسيرة الديمقراطية والديمومة السياسية من خلال استعادة ثقة المواطن ومشاركته في ممارسة حقه الديمقراطي لاختيار ممثليه المفضلين، بخاصة أن المناسبة الديمقراطية أُجِّلت عامين نتيجة الانقسام والصراع بين الأحزاب المتنفذة، اللذين شهدا تكراراً للشعارات الرنانة والخطابات الشعبوية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، مما دفع الأمور في نهاية المطاف إلى تعطيل العملية الانتخابية تحت أعذار وتبريرات مختلفة.
وفتحت هذه العوامل مجتمعةً الأبواب أمام تدخل المحكمة الاتحادية العليا التي انتزعت مسؤولية إدارة العملية من الحزبين، وأسندتها إلى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات الاتحادية، والعملية الانتخابية التي أُجريت كانت اختباراً لها لتقطع الطريق أمام أي خروقات وعمليات تزوير.
إبان الحرب على الإرهاب والتنظيمات المتطرفة، كان إقليم كردستان قد كسب ودّ التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية التي لطالما شدّدت على بلورة إدارة رشيدة واحترام حقوق الإنسان، وحرية الرأي وصيانة الحريات العامة والتعاون البناء بين بغداد وأربيل، وصولاً إلى تحقيق وحدة داخلية أكبر، إلى جانب المساعي الدبلوماسية والسياسية المبذولة من الدول الحليفة والصديقة التي تَعدّ الانتخابات إنجازاً مهماً للإقليم. أما بالنسبة الى واشنطن، فإن مواقفها حاسمة لضمان استعادة مؤسسات إقليم كردستان شرعيتها، وتجديد ولايته، والحفاظ على كيانه الدستوري.
إن الشرعية الحقيقية مستمَدّة من قوة الشعب وحده، والتاريخ يقول إن كل الأنظمة والحكام لها بديل، أما الشعب فليس له بديل.
إن المعاجم السياسية تَعُدّ الانتخابات ركيزة أساسية لتقوية دعائم الديمقراطية، وحتى مع الأوضاع المتعثرة في الإقليم وما يبدو أنه احتكار للسلطة، نأمل في أن تتولى القوى المؤثرة والفاعلة مهمة الانتقال من الديمقراطية شبه المسلحة إلى الديمقراطية المدنية الحقيقية عبر آليات متوفرة وجهود حثيثة لوضع وكتابة دستور لإقليم كردستان، إذ تُقرّ المادة 120 من الدستور العراقي الدائم بذلك لتحديد القواعد الأساسية لشكل الإدارة ونظام الحكم في الإقليم، وتنظيم سلطاته العامة.
إن الأولوية في المرحلة القادمة يجب أن تكون لمشروع كتابة الدستور، لأن العملية السياسية لا تتعافى من نواقصها وعثراتها المزمنة في غياب دستور ينظم دور المؤسسات والسلطات، لتكون السيادة المطلقة فيه للقانون، ولتشعر جميع المكونات وشرائح المجتمع بالأمن وفق رغبات وتطلعات أفراده، بل إنما الهدف من كتابة الدستور هو حماية المواطَنة التي هي أهم الأهداف المرجوّة للعملية الديمقراطية الحديثة، لتعزز من إمكانات المشاركة وترسيخ مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المواطنة.
المسؤولية الكبرى التي تقع على عاتق البرلمان القادم ستكون إنشاء قوة عسكرية موحَّدة تتولى حماية إقليم كردستان بدلاً من المصالح الحزبية الضيقة، على أن تكون تلك القوات محايدة، على مسافة واحدة من جميع الفاعلين السياسيين، فضلاً عن تكثيف الجهود والمساعي من خلال المؤسسة التشريعية لمحو آثار مظاهر الإدارتين والانشطار الكبير الذي لا يزال يعاني منه إقليم كردستان منذ بداية الاقتتال الداخلي في تسعينات القرن الماضي، الذي يُعرف شعبياً بـ«حرب الإخوة».
* رئيس حزب «جبهة الشعب» في إقليم كردستان