د. سعاد كريم
باحثة لبنانية
TT

لبنان... وطن في مهب الريح

استمع إلى المقالة

منذ الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 حتى يومنا، لم ينعم لبنان باستقرار دائم حقيقي. لبنان، هذا البلد الذي كان يُدعى بـ«سويسرا الشرق»، أضحى بلداً متداعياً فقيراً تغمر مواطنيه الكآبة والحزن والخوف من المستقبل وما يخبّئونه لهم. إن الشعب اللبناني ينهار، وبخاصة بعد الضائقة المالية والمعيشية التي ألمّت به منذ أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019. حيث صرف معظم اللبنانيين، إن لم نقل جميعهم، معظم أموالهم ومدخراتهم، وحُجزت، إن لم نقل سُرقت ودائعهم في المصارف، ومنذ تخلف لبنان عن سداد ديونه الأجنبية - أضف إلى ذلك جائحة «كورونا» عام 2019 وانفجار مرفأ بيروت في أغسطس (آب) 2020 - هبط إجمالي الناتج المحلي الاسمي من قرابة 52 ملياراً عام 2019 إلى ما يُقدّر بنحو 23.1 دولار عام 2021، كما ورد في بيانات البنك الدولي: عدد ربيع 2021 من تقرير مرصد الاقتصاد الذي ذكر فيه أن لبنان يواجه أزمة اقتصادية مركبة لم يشهد لها مثيلاً من قبل ووصفها بأسوأ الأزمات على مستوى العالم منذ القرن التاسع عشر، وأعتبرها واحدة من أسوأ الكوارث الاقتصادية في العصر الحديث.

وتابع البنك الدولي بأن الانكماش الاقتصادي أدّى إلى تراجع ملحوظ في الدخل الإنفاقي، بحيث انخفض نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بنسبة 36.5 في المائة بين عامي 2019 و2021. ولبنان الذي يعاني من أزمة اقتصادية خانقة منذ 2019، سيواجه ضغوطات إضافية في حال حدوث حرب شاملة بين إسرائيل و«حزب الله».

من الصعب أن نتنبأ بما قد يحدث في لبنان وفي ساحة الشرق الأوسط، بخاصة بعد سلسلة اغتيالات لقادة كبار من «حزب الله»، آخرها اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله، وما زال مصير الأمين العام المنتظر هاشم صفي الدين مجهولاً، في ظلّ تهديدات إسرائيلية بالهجوم البري الذي أخذ طريقه وبدأ تنفيذه على لبنان.

التداعيات السلبية الناتجة عن الصراع في غزة وتزايد القتال الدائر على حدود لبنان الجنوبية والنزوح السكاني الهائل (نحو المليون نازح أصبحوا نازحين داخل بلدهم) من القرى الجنوبية الحدودية، فضلاً عن النازحين السوريين الذين يتجاوز عددهم 1.5 مليون نازح، أدّت إلى أزمة حادة وتفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي وحتى الديموغرافي. مما أثّر سلباً على البنية التحتية (من كهرباء ومياه وطرقات... إلخ) في بلد يعاني أصلاً من اقتصادٍ متهالك، ومن المؤكد أنه سيؤدي إلى انكماش ناتجه المحلي الإجمالي بشكل كبير، الذي كان أكثر من 50 في المائة بين أكتوبر 2023 وسبتمبر (أيلول) 2024 بخسارة وصلت إلى مليار تقريباً، وقد يتسع الانكماش إذا ما استمر اتساع رقعة العدوان.

إن خسارة لبنان كبيرة جداً، وتبلغ نحو 8 مليارات دولار أميركي، بالإضافة إلى تقلص الناتج المحلي الإجمالي البالغ 16 مليار دولار. وإذا طال أمد الحرب بين إسرائيل و«حزب الله» أو فرضت إسرائيل حصاراً برياً وبحرياً على لبنان، فهذا سيوقف مرور البضائع من خلال الشريان الأساسي والبوابة الوحيدة براً المنفتحة على السوق الإقليمية (من استيراد وتصدير) والعالمية، وقد حصل هذا فعلاً بعد قصف الطائرات الإسرائيلية نقطة المصنع بين لبنان وسوريا. أما إذا حصل حصار بحري فهذا سيؤثر على التجارة المحلية والدولية، وإمدادات النفط من بنزين وغاز وغيرهما، وإذا اجتاحت إسرائيل لبنان، كما تهدد يومياً، فستكون الخسائر الحقيقية والمحتملة أكبر بكثير مما هو متوقع وسيؤثر سلباً بطريقة غير مباشرة على أسواق الطاقة والتجارة الدولية، وقد تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز وانخفاض ملحوظ لتدفقات العملة الصعبة والتي ترتكز مصادرها على السياحة، والاستثمارات الأجنبية، والتحويلات المالية، بخاصة من ذويهم والتي تعتمد عليها الأسر للعيش بكرامة. والصادرات التي أصبحت نادرة شحيحة بعد هجرة الشركات الاستثمارية الأجنبية والشركات اللبنانية ذات المهارات العالية وهجرة الأدمغة واليد العاملة فيستأثر لبنان بشكل كبير، حيث إن لبنان بحاجة ماسة إلى العملة الصعبة من أجل سداد فاتورة وارداته. والبنك المركزي في لبنان يعمل جاهداً على استمرار استقرار وتوحيد سعر الصرف.

إن القطاع السياحي يتعرض لخسائر كبيرة، وبسبب الحرب أوقف عدد كبير من شركات الطيران (نحو 30 شركة) الرحلات من وإلى مطار بيروت، بينما انخفض عدد القادمين بنسبة 23 في المائة من أكتوبر عام 2023 مقارنة بالفترة نفسها عام 2022 ما سبّب بتقليل حجم الأعمال في الفنادق والمطاعم ومكاتب إيجار السيارات. وإذا تطور الوضع الأمني بين إسرائيل و«حزب الله» إلى حرب شاملة، فإن السياحة ستتوقف كلياً تقريباً، وقد يؤدي ذلك إلى فقدان 4 مليارات دولار من عائدات السياحة.

هذا غيضٌ من فيض مما يمكن أن يقال عن الوضع اللبناني الخطير. وفي حال قيام القوات الإسرائيلية باجتياح بري فإن أكثر من 4 ملايين لبناني سيصبحون نازحين داخل بلدهم، تحت سمع وبصر العالم.

* باحثة لبنانية