تطور الأفكار البشرية لا يختلف كثيراً عن تطور أي كائن حي آخر وتكاثره. فكلاهما مدفوع بغريزة البقاء وتحدي الموت والفناء. فالفكر البشري ينتج نسخاً جديدة وقراءات متنوعة، ويتكاثر ويتكيف وفق شروط اجتماعية جديدة تحتمها صيرورة الواقع المتغير، وكذلك الكائنات الحية «بما فيها الفيروسات» أيضاً تتحور إلى عدد من الطفرات الجديدة التي تتحدى مقاومة واقع جديد ومتغير. هذه الرغبة الملحة في إرادة بقاء الأفكار والعقائد الإنسانية التي تقاوم الآليات والتحصينات الدفاعية المتطورة للمجتمع هي ما تفسر على سبيل المثال انبثاق التيارات الفكرية للماركسية الجديدة، والليبرالية الجديدة، والرأسمالية الجديدة من داخل عباءة الفكر الكلاسيكي لكل هذه المنظومات الفكرية، بل وتفسر كذلك ظهور اتجاهات فرعية من داخل الأديان التقليدية نفسها، كالبروز الواضح في العقود الأخيرة للمسيحية الجديدة، واليهودية الجديدة، والإسلام الجديد.
ومن داخل مظلة هذا الإسلام الجديد يمكن قراءة ظهور «المتحور الجديد» لليسار «الإخواني» الذي تطور من داخل الجينات الأصلية لتراث «الإخوان» التقليدي للمودودي وسيد قطب، اللذين طوَّرا نظريتهما عن «الحاكمية الإلهية»، وهي النظرية السياسية اليمينية التي بمقتضاها تطلع الإخوان إلى «أخونة» الدولة الحديثة بكل شرائعها وقوانينها، ومكوناتها الوطنية، وسياساتها الخارجية، وعلاقة الحكومة بالمجتمع، وتبعية الحاكم السياسي للمرجعية العقائدية للإخوان في إصدار القرارات وتشريع القوانين والأحكام. وبما أن المنطق السياسي للدولة الحديثة غير ثابت ونسبي ويدور مع المصالح المتغيرة في حين أن النص الديني ثابت ومطلق، كما أن قواعد اللعبة السياسية مختلفة شكلاً ومضموناً مع المنظومة الأخلاقية والقيمية للدين، فكان الصراع حتمياً ومتعذر تجنبه بين صناع القرار وحركات «الإخوان المسلمين».
وفي خضم هذا الصراع السياسي بين «الإخوان» والحكومات العربية والذي تزامن في إحدى حقبه التاريخية مع معاداة المعسكر الشيوعي إبان الحرب الباردة وانهيار المنظومة الاشتراكية للاتحاد السوفياتي في تسعينات القرن المنصرم، تحول عدد لا بأس به من اليساريين الماركسيين العرب إلى الفكر السياسي الإسلامي، وكان من أبرزهم عبد الوهاب المسيري، وفهمي هويدي، ومحمد عمارة. وإن كانت الانشغالات الفكرية لهويدي وعمارة تميل إلى التعاطي مع التراث الفقهي والفلسفي الإسلامي، إلا أن المسيري كان منخرطاً بشكل أكبر في نقد التراث الفلسفي الغربي موظفاً الأدوات والمناهج والنظريات اليسارية التي طورها الجيل الأول لمدرسة فرنكفورت النقدية، وهو أول جيل اشتراكي ينشأ في العالم الغربي، ومسلحاً بترسانة نقدية شرسة من المفاهيم والأدوات العلمية والنظريات الماركسية الموجهة ضد النموذج المادي للرأسمالية. وكل الجهد التنظيري الذي بذله المسيري في هذا الصدد كان عبارة عن إعادة إنتاج وتوطين هذا المشروع النقدي اليساري الفرانكفوني للرأسمالية داخل المجتمعات العربية، مستبدلاً بوعي ماكر ومخادع مفهوم الرأسمالية بالعلمانية؛ لأن المنظومة الفكرية للأخيرة لها وقع وأثر كبيران في الخطاب السياسي الإسلامي أكثر من الرأسمالية، كما أن لها إيقاعاً سحرياً خاصاً في دغدغة عواطف النخبة المعرفية الإسلامية ووجدانها بما يفوق بمراحل نقد النموذج الاقتصادي الرأسمالي.
وداخل هذا النسق اليساري صك المسيري مفهوم «العلمانية الجزئية» مشروعاً سياسياً يمكن مواءمته، وفق منظوره، مع التعاليم السياسية الإسلامية. ولو انتزع القارئ من المشروع الفكري للمسيري مفهوم العلمانية وأحل محلها النموذج المادي للرأسمالية، سيخلص إلى النتائج نفسها، وسيكتشف اللعبة المفاهيمية لأطروحاته النقدية، التي لم تكن إلا مجرد استنساخ واضح لنقد الجيل الأول للمدرسة الفرنكفونية اليسارية تجاه البنى المادية للاتجاهات غير الإنسانية للرأسمالية المتوحشة وبشكل خاص التراث النقدي ليساريَّ الجيل الأول اليهود فروم وماركوزا وهوركايمر وأدورنو. بل ذهب المسيري أبعد من ذلك، فمن داخل المنظومة الفكرية اليسارية لهذه المدرسة التي تتبنى النظرة الماركسية الازدرائية للدولة الحديثة بوصفها «مجرد أداة قمعية في يد الطبقة البرجوازية، وتحمل جذور فنائها وجرثومة فسادها بداخلها»، استنسخ وروّج المسيري افتراضها الذي يدعي أن الدولة الحديثة تحولت إلى كلية القدرة حينما أصبحت مؤسساتها متغلغلة بمقدراتها الرقابية والتكنولوجية داخل الأنا الفردية والوعي الجمعي، فمسخت كينونة الإنسان الأخلاقية، وشوهت تصوراته للحياة والكون والمجتمع. وبالتالي، يصبح من المشروع تفكيكها واستبدالها بمنظومة سياسية جديدة تحددها مرجعية قيمية يرتبها المسيري بشكل ميتافيزيقي واعتباطي داخل نظريته الأخلاقية الهزلية في «العلمانية الجزئية».
وعلى خطى المشروع اليساري التفكيكي للدولة الحديثة عند المسيري، وتحديداً بعد الأحداث الدامية للربيع العربي وفشل برامج «الإخوان» في تطبيق المشروع اليميني القطبي والمودودي في «أخونة» مؤسسات الدول العربية وهياكلها، والدخول في صراع مفتوح مع نظمها السياسية ومع المجتمع الذي أصبح أكثر نضجاً ووعياً بالأعمال التخريبية للحركة وعقم عقيدتها السياسية، ظهر المتحور اليساري للبصمة الوراثية الفكرية للمسيري ردَّ فعل ضد مقاومة الميكانيزمات الدفاعية التي أنتجتها دول ومجتمعات ما بعد الربيع العربي. وقد أخذ هذا المتحور في مرحلة هذه التحولات السياسية صيغة «تفكيك الدولة الحديثة» بكل مؤسساتها بوصفها منظومة غير أخلاقية، وذلك بعد إخفاق الفيروس اليميني الأصلي «للحاكمية» القطبية والمودودية التي كانت تقبل وتشرعن بقاء الدولة الحديثة واستمراريتها بشرط انصياع قادتها السياسيين لإرادة مفسري الحاكمية الإلهية «وتديين» فضائها العام وسياساتها الخارجية.
واتساقاً مع هذا المتحور اليساري المنبثق من سياق أحداث ما بعد الربيع العربي، ظهر كتاب «الدولة المستحيلة» للمفكر المسيحي اليساري بجامعة كولومبيا وائل حلاق الحائز مؤخراً جائزة الملك فيصل العالمية! وأعقب نشر منتجه الفكري أو تزامن معه طباعة كتب أخرى تدور داخل منطق الجدل التدميري نفسه للدولة الحديثة بوصفها منظومة غير أخلاقية، ككتاب «الخيال السياسي للإسلاميين ما قبل الدولة وما بعدها» للناشطة الإخوانية اليسارية أستاذة العلوم السياسة هبة رؤوف عزت، وكتاب القبطي اليساري نائب رئيس حزب الحرية والعدالة السابق والمستشار السياسي لمحمد مرسي الدكتور رفيق حبيب في كتابه «الإسلاميون والدولة القومية» المستلهم من منتجه الفكري السابق «الأمة والدولة: بيان تحرير الأمة».
وقد جادل حلاق بكتابه بأن نموذج الدولة الحديثة غير أخلاقي، وبالتالي من العبث «أسلمتها» بنماذج أخلاقية من داخل المنظومة الفكرية الإسلامية سواء كانت على النهج اليميني للمودودي وقطب أو بأي طريقة إسلامية أخرى؛ بسبب نشأة هذه الدولة الحديثة على خمس سمات غير أخلاقية: النشأة الغربية لها، والسيادة الميتافيزيقية لكيانها، واحتكار الدولة العنف المشروع، وهيمنة جهازها البيروقراطي، وتدخلها الثقافي في النظام الاجتماعي وإنتاجها الذات الوطنية. وبمقارنات واستدلالات قياسية فاسدة مع نموذج الدولة الحديثة، ذهب حلاق بعيداً في أسطرة التاريخ الإسلامي وقراءته بمنهجية رومانسية حالمة من خلال ادعائه بأن الخليفة كان ينصاع لرأي الفقهاء والقضاة وأهل الحل والعقد وبأن نظام الخلافة الإسلامي شهد هامشاً واسعاً في الفصل بين السلطات لم تشهده تجارب الديمقراطيات الغربية، وهو ادعاء مضلل يصعب إثباته نظرياً وتجريبياً عبر كل مسار التاريخ الإسلامي، بل إن الأدلة والبراهين التاريخية على دحض دعواه وافرة وزاخرة. كما شطح حلاق بمبالغاته الميتافيزيقية بعيداً إلى الدرجة التي انتقد فيها مفهوم الهوية الوطنية وشجب من خلال هذا التصور تضحية المواطن وقتاله من أجل نموذج غير أخلاقي للدولة الحديثة التي لا تعرف «قيمة ولا واجباً أخلاقياً ولا خيراً خارج خيرها». ورغم كل هذه المعاول النقدية اليسارية التي تتطلع إلى تقويض الأسس الأخلاقية لكل النظم السياسية في العالم بما فيها السعودية، مُنح حلاق جائزة الملك فيصل العالمية!
وليس من المستغرب أن هذه الأطروحة النقدية والتفكيكية لحلاق كانت قد احتفت بها قناة «الجزيرة» وروّج لها المتهم بالإرهاب مفتي «القاعدة» أبو قتادة الفلسطيني. فمن جهة أولى وجدت «الجزيرة» في أفكار حلاق التقويضية للدولة مشروعاً نظرياً مهماً يعزز من التوجهات الثورية التي تتطلع إلى تدمير النظم السياسية العربية، ومن جهة أخرى اتفق أبو قتادة والداعشيون وأصحاب مشروع العنف السياسي الإسلامي مع المرجعية المعرفية لحلاق من حيث رفضهم العقائدي المشترك لمشروع الدولة الحديثة بوصفها منتجاً غربياً، وارتكازها على سيادة علمانية، واستهجانهم مكونات هويتها الوطنية التي لا تتقاطع مع مفهوم الأمة الإسلامية وتجلياتها التاريخية. وهو التوجه الفكري نفسه لمفهوم «فراغ المواطنة» الذي صاغته اليسارية هبة رؤوف عزت، أو إحلال هوية «الجماعات» الثقافية بديلاً لروابط المواطنة المعاصرة، كمشروع فكري آخر اقترحه القبطي اليساري مستشار محمد مرسي رفيق حبيب.
ومن الممكن إجمال مشروع المتحور الجديد لليسار «الإخواني» للمسيري وحلاق وهبة رؤوف ورفيق حبيب وغيرهم بالعناصر التالية:
1- التأثر بالرؤية الماركسية التي ترى أن الدولة مشروع غير أخلاقي لأنها تعبّر عن إرادة الطبقة البرجوازية، واستلهام أدبيات وأدوات ما بعد الحداثة في إعادة غربلة المعاني للنصوص التراثية بما يفيد مشروعهم اليساري التفكيكي للدولة الحديثة.
2- التشكيك بالمنظومة القيمية والسيادية لنموذج هذه الدولة بسبب نشأتها في مجتمعات غربية.
3- استنكار قدرة الدولة المفرطة على التغلغل في المجتمع واحتكارها العنف المشروع، والتشكيك في وطنية وإخلاص كياناتها ومؤسساتها الأمنية.
4- تقويض المعنى الأخلاقي للهوية الوطنية وإحلالها بروابط اجتماعية أخرى.
5- وبناءً على ذلك كله؛ يتم شجب القتال والدفاع عن هذه الدولة «غير الأخلاقية».
ومن هنا، نجد أن هذا الخيط الرفيع للمشروع الفوضوي الأناركي والتفكيكي للدولة الحديثة هو القاسم المشترك الذي جمع بين اليسار «الإخواني»، وبين «داعش» و«القاعدة»، والطليعة الفكرية لحركات العنف السياسي الإسلامي. وفي هذا الصدد انتقدت اليسارية الإسلامية هبة رؤوف سيد قطب لقراءته اليمينية المشوهة والمختزلة للماركسية وتيارات ما بعد الحداثة التي من الممكن بناء جسور تواصل معرفي مع نخبها الفكرية بسبب ما تمتلكه هذه المدارس الفلسفية من أدوات نقدية وأطر نظرية تسهم في تفكيك المشروع الأخلاقي للدولة الحديثة.
والمثير للسخرية أن المشتركات الثقافية والأخلاقية بين «الإخوان» واليمين المحافظ في الغرب أكبر بكثير من نقاط الالتقاء مع التيارات اليسارية، ومع ذلك نجد تحالفاً نفعياً عريضاً بين (اليسار الغربي، والإخوان، والمعارضة الإسلامية في المنفى). فالبرامج السياسية لليمين المحافظ في الغرب تنسجم مع التوجهات القيمية والأخلاقية للتجمعات الاسلامية من حيث تجريم المثلية، ومعارضة حق الإجهاض، والمطالبة بالحفاظ على قيم الأسرة الأبوية، والتمسك بالأدوار الاجتماعية التقليدية للمرأة، وتقليص فرصها الوظيفية في المجال العام، والتشجيع على تدريس المواد الدينية في المدارس العامة، واحترام الشعائر والطقوس والرموز والممارسات الدينية. ورغم ذلك كله يمد «الإخوان» والمعارضون الإسلاميون بالمنفى جسور التواصل والتحالفات السياسية مع الحركات اليسارية والأناركية وما بعد الحداثية التي تعارض بشكل صريح ومعلن كل هذه المواقف والبرامج اليمينية المحافظة، التي تعدّ تحررها من هذه القيود الأخلاقية والاجتماعية مطلباً جوهرياً في خطابهم السياسي والثقافي. ولكن لأن «الإخوان» والمعارضة الإسلامية في المنفى جماعات نفعية تحركها البرغماتية السياسية والمصالح الذاتية، فكان من المنطقي أن تتحالف هذه الجماعات مع اليسار الغربي نظراً لاشتراكهم في المذهب التفكيكي للدولة وإعادة إنتاج وتوليد معانٍ جديدة لنماذج وقوالب سياسية مفارقة لصورة الدولة المعاصرة، وبشكل يتناقض مع لافتات وشعارات المنظومات القيمية والأخلاقية التي ترفعها وتوظفها هذه الجماعات الدينية بشكل أداتي لتقييد هامش المساحات الثقافية والمناورات السياسية للحكام المسلمين بهدف تقويض شرعيتهم في إدارة شؤون الدولة.
وأخيراً، من المستحسن بالختام ربط الحاضر بالماضي والتذكير بأن التاريخ يعيد نفسه حينما نتوجه إلى أواخر سبعينات القرن العشرين عندما أثنى عراب تيار ما بعد الحداثة اليساري ميشيل فوكو على ثورة الخميني وزار إيران عقب الثورة تحت مسمى احترام نسبية القيم والخصوصية الثقافية، مُجَـدِّداً النظرة النقدية والازدرائية للدولة الرأسمالية الحديثة التي قضت عليها الثورة الخمينية من منظوره الخاص. وهي الطفرة الفيروسية نفسها التي تتطور وتتحور حالياً عبر خلية نشطة تتكون عناصرها من حلف براغماتي ونفعي يجمع بين (اليسار الغربي، والإخوان، والمعارضة الإسلامية في المنفى). وستزداد مخاطر هذا المتحور ومهدداته من حيث التوسع والانتشار والتأثير السياسي في حال تولّت اليسارية كامالا هاريس إدارة البيت الأبيض.