د. عبد الحق عزوزي
أكاديمي مغربي متخصص في العلوم السياسية والقانون
TT

مواهب من صناعة الهجرة

استمع إلى المقالة

لامين يامال كما يسميه الإسبان، أو أمين جمال مثل ما يلقبه المغاربة، هو نجم صاعد بامتياز، وأصغر لاعب شارك في الدوري الإسباني الممتاز، وأصغر لاعب ساهم في صناعة هدف عالمي في كأس الأمم الأوروبية «يورو 2024» الأخيرة. تمكن هذا الشاب من أصول مغربية، ومن صناعة الهجرة، من صقل موهبته الكروية، وأبان عن إمكانيات ضخمة في سن مبكرة ليتم اختياره للصعود إلى الفريق الأول مع بداية الموسم، وأصبح يامال أصغر لاعب في تاريخ كأس أمم أوروبا ينجح في التسجيل قبل أن يكمل عامه السابع عشر بهدفه في شباك المنتخب الفرنسي في «المربع الذهبي» لبطولة «يورو 2024». كما أنه ساهم بثلاث تمريرات حاسمة في هاته البطولة.

زد على ذلك أن هذا الشاب أضحى أيضاً نجماً بارزاً على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث ذكرت منصة «تيك توك» أن مقاطع الفيديو الخاصة بلامين يامال، حظيت بأكثر من 170 مليون مشاهدة خلال البطولة القارية، التي استمرت شهراً، وهو أكثر بكثير من أي لاعب آخر.

وفي كلّ مرّة يُسجّل فيها لامين يامال هدفاً، فإنه يشير بفخر وسعادة بيديه إلى الرقم 304، وهو الرمز البريدي لروكافوندا، المنطقة الكتالونية المتواضعة التي نشأ فيها والتي يقطنها عدد كبير من السكان المهاجرين، والتي يشير إليها حزب «فوكس» المنتمي لأقصى اليمين بأوصاف تنمّ عن كره الأجانب... كما أن حزب اليمين المتطرف في فرنسا دائماً ما يشير بازدراء إلى غلبة الأصول الأفريقية في المنتخب الفرنسي لكرة القدم.

نعم، إنه خطاب الكراهية! فأينما كان وأينما تم ترويجه فإنه يطرح تساؤلات لا منتهية وحوارات عقيمة عن مدى قابلية تعايش جزء من الناس مع الآخر بسبب لون بشرته أو بسبب عرقه أو انتماءاته الحضارية والثقافية، وهو يعتمد على مرجعيات فكرية مغرضة، ويحاول أصحابه تسييسه في المجتمعات ليقضي على أصول التعايش والعيش المشترك.

ولكن هؤلاء المهاجرين يساهمون في إثراء مجتمعات المهجر، وهم نعمة وليسوا بنقمة، وهم فاعلون حقيقيون في مجال التنمية والبناء الحضاري، ويمكن أن نذكر في هذا الصدد، السيد إيلون رييف ماسك، صاحب شركة «سبايس إكس»، وهو مهندس ومخترع خارج العادة، وهو من أصول جنوب أفريقية، ثم انتقل للعيش في أميركا وأصبح مليارديراً، ورسخ وجوده على عرش القادة الصناعيين.

ويمكن أن نذكر أيضاً ما يمكن أن يضطلع به المهاجرون من أصول إسلامية في بلاد المهجر، وبالضبط مع قصة العمالي صادق خان الذي استطاع أن يفوز بولاية ثالثة على رأس العاصمة البريطانية، وخان هو ابن لمهاجرين باكستانيين، عاش حياة صعبة في سكن اجتماعي، وكان هذا المحامي قد فاز برئاسة بلدية لندن للمرة الأولى في 2016، وأصبح أول مسلم على رأس عاصمة غربية. ولمدة الولايتين السابقتين وخلال الأسابيع الماضية أثار هذا الرجل الذي يجسد ما يمكن أن تساهم به الهجرة في دول المهجر، صخباً عارماً على وسائل التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام البريطانية والدولية.

ولكن لامين يامال وإيلون ماسك وصادق خان، وغيرهم بالآلاف، يعطون صورة مشرقة عن المهاجرين الذين يساهمون في إثراء المجتمعات من خلال قدراتهم البشرية والاقتصادية والاجتماعية، ودمجهم لدفع التنمية على المستويات المحلية والوطنية والإقليمية والعالمية، ناهيك عن تحويلات المهاجرين في العالم لدولهم الأم، وهي تمثل نحو 450 مليار دولار، أي نحو 9 في المائة من الناتج العالمي.

هناك تغيير جذري تُحدثه ظاهرة الهجرة في مسار العلاقات الدولية عن طريق ما يسمى بعولمة موجات الهجرة، وتقوية الشبكات العابرة للدول، والخرق المستمر للحدود الوطنية. وأصبحت الدولة الوطنية بمفهومها الفستفالي التقليدي هي الخاسر الأول، وإن كانت ما زالت تقاوم، ولو باستحياء في بعض الأحيان، مواطن السيادة التي تملكها، كما أن الخاسر الآخر هو خطاب الكراهية في حق المهاجرين؛ لأن هؤلاء وإن أبتهم بعض الأحزاب المتطرفة والفئات المجتمعية، فإنهم يشكلون جزءاً لا يتجزأ من تلك البلدان، ويساهمون في عمليات البناء والتنمية ليس فقط في بلدان المهجر، ولكن أيضاً في بلدانهم الأصلية، وهاته الحقيقة وتبعاتها هي التي ندافع عنها في إطار كرسي تحالف الحضارات الذي لنا شرف ترؤسه، وهذا ما يخلق تقارباً بين الشعوب، ويُصلح ما شاب السياسات والأفكار من اعوجاج، ويساهم في الالتزام بالأهداف التي تعزز القيم والمبادئ الإنسانية التي هي القاسم المشترك بين جميع الحضارات والثقافات، ويؤسس لبناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك، وينشئ طرقاً مُعبّدة للتسامح والتحالف والجمال، وتجعل صناعة الحاضر والمستقبل تبتعد عن المخاطر والويلات، وتزيل الكثير من المخاوف التي يتقاسمها الكثير من المجتمعات.