رامي الريس
كاتب وصحافي وأستاذ جامعي من لبنان، وباحث ومترجم، يكتب في القضايا العربية والدولية، يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، وله مشاركات في العشرات من المؤتمرات وورش العمل في لبنان والخارج.
TT

رفض الحوار اللبناني ــ اللبناني... ما البديل؟

استمع إلى المقالة

لا يستطيع لبنان أن يصرف مزيداً من الوقت على رصيف الانتظار. الوقت الذي هُدر في السنوات الأخيرة تعطيلاً للاستحقاقات الدستوريّة وتأخيراً لمواعيدها المفترضة؛ كان كفيلاً بتحقيق كثير من الإنجازات التي ينتظرها اللبنانيون بفارغ الصبر، ولكن انتظارهم يبقى من دون طائل.

الخلاف القائم حالياً بين القوى اللبنانيّة حيال قضيّة وطنيّة حيويّة للغاية؛ ألا وهي انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة بعد مرور أكثر من سنة ونصف السنة على الشغور الرئاسي (بدءاً من 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2022)، هو خلاف غير مبرر وفي غير مكانه تماماً، لا سيّما أنه أدّى إلى تعطيل محطة دستوريّة في غاية الأهميّة، تبعها شلل شبه تام في المؤسسات الدستوريّة خصوصاً أن الحكومة القائمة حالياً هي حكومة تصريف أعمال وغير مكتملة الصلاحيات، ومن المفترض أن تنحصر نشاطاتها في الإطار الضيّق لتسيير أمور البلاد بانتظار انتخاب رئيس جديد، وتالياً تشكيل حكومة جديدة.

إذا كانت بعض الأطراف تعدّ أن الحوار هو السبيل الوحيد للتفاهم على انتخاب رئيس جديد، في حين تجاهر أطراف أخرى هذا الخيار وتعده بمثابة تكريس لأعراف جديدة، وإذا كانت موازين القوى لا تتيح لأي من المعسكرات السياسيّة المتقابلة والمتعارضة أن تنفرد بانتخاب الرئيس (وربما هذا أفضل قياساً إلى طبيعة التركيبة اللبنانيّة المعقدة)؛ ففي نهاية المطاف لا بد من البحث عن مخرج ما للخروج من المأزق.

عمليّاً، لم يكن انتخاب الرئيس اللبناني في أي مرحلة من المراحل مجرّد عمليّة اقتراع لأصوات في صندوق الانتخاب الخشبي (التصويت في البرلمان اللبناني لا يزال «يدوياً» رغم توفر التصويت الإلكتروني)، وقلّما شهدت الانتخابات الرئاسيّة اللبنانيّة تنافساً جدياً خارج الإطار الفولكلوري (باستثناء تلك التجربة الفريدة التي حصلت في انتخابات عام 1970؛ إذ فاز الرئيس سليمان فرنجيّة -يومذاك- بفارق صوت واحد).

بشكل دائم، كان انتخاب الرئيس اللبناني هو بمثابة ترجمة لتسوية خارجيّة - داخليّة، وكانت تُحدد مساراتها والخيارات الرئاسيّة تبعاً لعمق تأثير اللاعبين الخارجين وهوياتهم. لطالما كانت السياسة اللبنانيّة مخترقة، ولو بدرجات متفاوتة. ولكن، دائماً كانت ثمة تأثيرات كبيرة للاعبين الخارجين في قضيّة اختيار الرئيس اللبناني.

بالتالي، إذا اتّسع «الهامش» المحلي في انتخاب الرئيس، فمن المفترض أن يُشكّل ذلك فرصة حقيقيّة للبنانيين للتحاور والتشاور، وصولاً إلى التفاهم على هوية الرئيس، بدل أن يقدّموا إلى اللبنانيين وإلى العالم صورة بشعة تتمثّل في انقسامهم العميق، وفي غياب قدرتهم السياسيّة على إدارة شؤون البلاد، وممارسة السياسة فيها بمسؤوليّة وحكمة. ويحق للبنانيين التساؤل عن مستقبل بلادهم في ظل مشاهدتهم اليوميّة العجز السياسي عن إنجاز الاستحقاقات الدستوريّة لا سيّما في ظل أزمة اجتماعيّة ومعيشيّة خانقة وغير مسبوقة، وفي ظل حرب مستعرة في جنوب البلاد تنذر بتوسع خطير ومخيف كل يوم وفي كل لحظة.

ليست المرة الأولى التي يخوض فيها اللبنانيون الحوار، لا، بل هم عقدوا العشرات من الطاولات الحواريّة خلال العقود الماضية، بعضها أدّى إلى نتائج سياسيّة جيّدة، وبعضها الآخر باء بالفشل، وانتهى إلى عدم سياسي. بعض تلك التجارب الحواريّة كان في الداخل والبعض الآخر في الخارج. إلا أن أياً من الأطراف السياسيّة اللبنانيّة لم يُسجّل في السابق مواقف غريبة من نوع الخشية من تسجيل «سابقة» في الحوار! ماذا عن «السابقات» الأخرى؟ لماذا لم تكن المشاركة في الحوار في المرات السابقة تثير الخوف والقلق من تسجيل سابقة سياسيّة معيّنة؟

بالمنطق السياسي، هل يجوز أن يرفض أي طرف الحوار أو أن يغلّف رفضه بعبارات ومصطلحات سياسيّة تخفي هدفه الأساسي؟ وهل يجوز أيضاً لأطراف أخرى أن تربط إنفاذ الأحكام الدستوريّة بمقترحات يمكن تجاوز شكلياتها للوصول إلى المبتغى الأساسي؟ وإذا كانت بعض القوى اللبنانيّة متمسكة بمرشح معيّن (إلى حد تعطيل الاستحقاق)، فهل يمكن للقوى المناهضة إعلان مرشحها الجديد بعد أن استهلكت و«حرقت» كثيراً من الأسماء السابقة؟

مشكورة دول اللجنة الخماسيّة (الولايات المتحدة الأميركيّة، وفرنسا، ومصر، والمملكة العربيّة السعودية، وقطر) على مواكبتها المتواصلة للاستحقاق الرئاسي اللبناني، ومشكورة هي؛ لأنها تتولى مهمة يفترض أن تكون في صلب مسؤوليّة الأطراف السياسيّة اللبنانيّة، ولعله من المفيد لها أن توسّع مروحة مشاوراتها مع أطراف خارجيّة فاعلة، بما يساعد في إنجاز انتخاب رئيس جديد للبنان!