كفاح محمود
TT

كردستان وتداعيات غزو الكويت واحتلال العراق

استمع إلى المقالة

منذ أكثر من ثلاثة عقود والمنطقة غارقة في دوّامة عنف متباينة، مثل المدّ والجزر، في معظم بلدان الشرق الأوسط، وما حولها، بعد أن خاضت المنطقة حربين عبثيتين قاسيتين وظالمتين؛ هما: غزو العراق للكويت، واحتلال أميركا العراق، وما يحصل اليوم هو من تداعيات هاتين الحربين اللتين حاولتا تغيير خريطة منطقة الشرق الأوسط دونما قراءة معمّقة لطبيعة مجتمعاتها وتناقضاتها، فلا العراق استطاع ضمّ الكويت، ولا الأميركيون نجحوا في تغيير جذري للنظام، إذ أزالوا هيكل النظام دونما الانتباه إلى الطبيعة السيكولوجية والاجتماعية للعراقيين الذين لا يتحمّلون نظاماً ديمقراطياً على الطريقة الأوروبية أو الأميركية، حالهم حال بقية شعوب المنطقة، لذلك فشلت محاولات الأميركيين لإحداث تغيير جذري في طبيعة المنطقة وتكويناتها الاجتماعية والسياسية.

موجات الصراع التي أنتجتها عملية غزو الكويت واحتلال العراق لن تنتهي بسرعة، ولا حتى في المستقبل المنظور، لكونها من الصراعات الأفقية الغائرة ذات العلاقة بطبيعة سيكولوجية وديناميكية المجتمعات وتحوّلاتها إلى نمط جديد، خصوصاً بعد أن عبثت بها ظاهرتان متطرفتان سادتا المنطقة، بعد أن فقست بيوضها بعد الغزوين العراقي والأميركي؛ ألا وهما الظاهرتان الدينية والقومية، اللتان تصدّتا لمفهوم المواطنة الجامعة، وعدّتها نوعاً من أنواع التغييب أو الشعوبية، ما دفع النُّخَب السياسية المحلية والخارجية، خصوصاً الولايات المتحدة وحلفاءها، إلى طرح بدائل لعملية التغيير، وفي مقدمتها مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي بقي مصطلحاً فضفاضاً لم تظهر أو تتبلور ملامحه بصورة فعلية على الأرض.

هذا على الرغم من أن غزو الكويت تسبّب في اندلاع انتفاضة عارمة في جنوب العراق وشماله، أدّت إلى صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم «688»، الذي عدّ إقليم كردستان الحالي ملاذاً آمناً لشعب كردستان، حرَّم فيه أي وجود عسكري عراقي على الأرض أو في الجو، ما أتاح قيام مؤسسات بديلة لتلك التي انسحبت من كلّ المحافظات والبلدات ذات الأغلبية الكردية باستثناء كركوك، وبعض المدن الأخرى المختلطة، بعد إجراء انتخابات عامة للمرة الأولى في جزء من العراق تمخّضت عن تشكيل أول برلمان كردي تنبثق منه أول حكومة كردية مستقلة عن بغداد.

ومع تطوُّر التعامل مع جزء من الإشكالية الكردية في الشرق الأوسط، فقد أغفل الأميركيون وحلفاؤهم تلك الإشكالية في بقية الأجزاء (إيران وتركيا وسوريا)، وهي مسألة في غاية الدقة والخطورة معاً، التي تُعَدُّ أكثر تعقيداً من مسألة الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، وربّما هي الأهم أيضاً، لأنها ترتبط بقوتين كبريين في المنطقة، إيران وتركيا، ناهيك عن العراق وسوريا اللذين تعاملا مع تلك القضية بأسلوب أنصاف الحلول، إذ لا تزال الأمور مثل الجمر تحت الرماد أمام تَعملُق ما تسمّى «الدولة العميقة» في كل من البلدين؛ أساسها الميليشيات الموالية لإيران، وما يجري الآن في كلا البلدين يؤكد أن القوى المضادة لحل الإشكاليتين فيهما تتغول، وتقترب من الهيمنة على السلطة، وعليه لا يبدو هناك في الأفق والمستقبل المنظور أي استقرار نوعي في الشرق الأوسط، الذي لا يزال كما هو منذ اتفاقية «سايكس بيكو» وحتى الآن.

إن غالبية الحلول الموضوعة تحت البحث، والمُنفّذة بصيغة أنصاف الحلول؛ مجرد محاولات لكيلا تنفلت الأمور، وتخرج من تحت أيديها، خصوصاً أن تداعيات حرب أوكرانيا وما بعدها في غزة تركت ظلالاً قاتمة على اقتصادات معظم الدول، ناهيك عن محاولة توسيع ساحة الصراع، سواءً في أوروبا أو في الشرق الأوسط، ومحاولة إيران توريط دول مجالها الحيوي (العراق واليمن ولبنان وسوريا) في حرب ثانوية ضمن تداعيات حرب غزة، ونجاح الأميركيين في كبح جماح الإيرانيين ووكلائهم.

في جانب آخر، وعلى الرغم من قتامة المشهد وتداعياته، استطاع إقليم كردستان، المركز الجديد للصراع في الشرق الأوسط، أن يمارس في خِضَمّ هذه الصراعات تعاطياً مرناً مع كل أطراف الصراع، على الرغم من تعرُّضه إلى شظاياه، بل والهجوم عليه من قِبل الأتراك بحجة «حزب العمال»، أو الإيرانيين ووكلائهم من الميليشيات، بحجة القواعد الأميركية ومقارّ المعارضة الإيرانية، إلا أن الإقليم نجح إلى حدٍّ أمّنَ لنفسه معه نوعاً من الاستقرار بتأسيس منظومة علاقات دبلوماسية مع دول الخليج العربي، تعتمد الجانبين الاقتصادي والاستثماري؛ بصفتها قاعدة لتكريس الاستقرار والانطلاق إلى المستقبل.

هذا النوع من التعامل الواقعي مع الأحداث فتح آفاقاً مهمة للاستثمار والنمو الاقتصادي في مجالات التنمية الصناعية والطاقة والزراعة والسياحة والمواصلات، لعشرات الشركات المهمة في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت، للاستثمار في كردستان، التي حفّزت أيضاً مثيلاتها في العراق وإيران وتركيا للعمل في الإقليم. وعلى الرغم من أن بعض الأطراف في إيران وتركيا والعراق تحاول الوقوف أمام هذا التوجُّه، فإن النشاط الدبلوماسي الكردي تمخّض عن زيارة في غاية الأهمية للرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى الإقليم، وزيارة أكثر أهمية من رئيس إقليم كردستان إلى طهران، وفي كلتا الزيارتين نجح الإقليم في تأمين نشاطه الاقتصادي ووضعه الأمني والحفاظ على كيانه السياسي أمام تحديات داخلية وخارجية تستهدف تقليصهما، كما عزّز موقع الإقليم واستقراره في المحيطين العربي والدولي في منطقة تعج بالصراعات، بما يجعله في مأمن من أي تمدُّد لتداعيات الصراعات الحالية أو المتوقعة مستقبلاً.