جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

تمرد في فردوس مايوركا الأرضي

استمع إلى المقالة

خلال العامين الماضيين، شنَّ الإيطاليون حرباً ضد الشركات السياحية بهدف استرداد شواطئهم من احتكارها، بعد أن قامت الأخيرة، بالاتفاق مع المجالس البلدية المحلية ذات الصلة، بتسييج الشواطئ، وفرض رسوم مالية على المصطافين، في محاولة لجعلها مخصوصة لاستمتاع السائحين.

في جزيرة مايوركا الإسبانية، بدأت مؤخراً حرب لا تختلف كثيراً عن تلك التي شنَّها الإيطاليون ضد الشركات السياحية والسائحين. الحربُ بدأت قبل فترة زمنية قصيرة من بدء فصل الصيف، وقدوم أفواج السياح.

جزيرة مايوركا -أو مالروكا- جزيرة إسبانية، تقع في البحر المتوسط، لا تبعد كثيراً عن مدينة برشلونة. وتعدُّ -جغرافياً وإدارياً- واحدة من 17 إقليماً في إسبانيا. ومثلها تتمتع بحكم ذاتي، وبعدد سكان لا يتجاوز مليوناً ومائتي ألف نسمة. وعاصمتها مدينة بالما. و75 في المائة من اقتصادها يعتمد على السياحة.

الفردوس نوعان: دنيوي مُقلَّد ومتوفر لمن يدفع. وأُخروي أصيل لكنّه مفقود. الفردوس الدنيوي، لكونه أرضياً، يظل خاضعاً لظروف الزمن والناس، ما يعني أن هناك احتمالاً للتخلي عن صفته الفردوسية، والتحوُّل فجأة إلى جحيم دنيوي.

وجزيرة مايوركا الإسبانية توصف بأنها فردوس أرضي، وبالتالي تخضع لتلك الاحتمالية. الأخبار القادمة من هناك، هذه الأيام، تؤكد أن صيف الجزيرة هذا العام سيكون ساخناً، وربما أكثر مما يجب. والملايين من السائحين الذين ينوون قضاء إجازاتهم في مايوركا هذا الصيف، غير محظوظين؛ لأنهم سيجدون في استقبالهم بدل الحفاوة والبشاشة، متظاهرين غاضبين من أهل الجزيرة، يحملون عالياً لافتات كُتبت بعدة لغات أوروبية، تعبِّر عن سخطهم من حضور السائحين، وتطالب بوضع حدٍّ لأعدادهم الهائلة.

السياحة المفرطة (Overtourism) صناعة كبيرة، وتتمدد في قارات العالم الخمس، وفي مايوركا خلقت أزمة. هل انقلب السحر على الساحر مرة أخرى؟

20 مليون سائح سنوياً يفدون على ذلك الفردوس الأرضي الإسباني. الألمان -وفق الإحصاءات الرسمية- يشكِّلون النسبة الأعلى بين السائحين القادمين للجزيرة، ويليهم البريطانيون. كثيرون منهم يختارون الإقامة في الجزيرة بصفة دائمة. وهذا يفضي بهم إلى المشاركة في مختلف مناحي النشاط الاقتصادي في التجارة والسياحة، والعيادات الطبية، والمكاتب الهندسية... إلخ.

وسائل الإعلام الدولية نقلت في الأيام الماضية مشاهد مصورة لآلاف من المايوركيين يرتدون القمصان الملوَّنة، مثل التي يرتديها سكان جزر هاواي الأميركية، ويعتمرون القبعات الصيفية تشبُّهاً بالسياح، وهم يجوبون شوارع العاصمة بالما، وغيرها من المدن، يرفعون اللافتات، ويصرخون معبرين عن غضبهم وسخطهم من الأعداد الكبيرة للسياح. فما الذي أغضب سكان الفردوس المايوركي؟

تقول التقارير الإعلامية إنَّه بالإضافة إلى أعداد الفنادق والمركبات السياحية المعدة لاستقبال السياح، يفضل كثيرون من رواد السياحة المنتظمين القادمين إلى الجزيرة الإقامة في بيوت خاصة، يشترونها في مختلف المناطق، ويحولونها إلى سكن ثانٍ صيفي، أو بغرض الاستثمار بالبيع أو التأجير. وأدى ذلك إلى ارتفاع الطلب على العقارات في الجزيرة، مما أدى إلى ارتفاع أسعارها، بحيث أصبح من المتعذر على الشباب المايوركي منافسة سياح ومستثمرين بجيوب منتفخة، بإمكانهم دفع مليون يورو ثمناً لشقة سكنية. وأفضى ذلك إلى خلق أزمة إسكانية حادَّة. ولم يعد ممكناً السكوت على الأمر. الغضبُ كان بعضه موجَّهاً نحو شركات الإعمار السياحي، بحرصها على تشييد مناطق إسكانية استثمارية بأسعار سياحية، ليس في مستطاع الشباب المايوركي دفع أثمانها.

صحيفة «الديلي ميل» البريطانية، أقامت الدنيا ضد المايوركيين، وترى أن ثورتهم ضد السياح لا تختلف عمَّن يعضُّ اليد التي تقدم له الطعام. وبالطبع، هناك كثيرون في وسائل الإعلام البريطانية أو الأوروبية، ممن ينضمون إلى موقف صحيفة «الديلي ميل». وهو حكم جائر ومنحاز ضد المايوركيين. فهم -أولاً وأخيراً- ليسوا ضد السياحة والسياح، وكل مطلبهم وضع حدٍّ، أو رقم معين، لعدد السياح الزائرين سنوياً. الأمر كذلك لا يقتصر على الأزمة الإسكانية؛ بل يتعدى إلى مستوى المعيشة. ذلك أن مستويات المعيشة في اقتصاد سياحي أعلى من غيرها في اقتصادات أخرى. وبالطبع، ينعكس ذلك على أسعار السلع والمواد الغذائية.

السلطات الحاكمة في الجزيرة تتفهم غضب الأهالي وتتعاطف معهم، وفي الوقت ذاته تسعى لإرضاء السياح. لكنها قامت مؤخراً برفع بعض القيود المفروضة على بيع المشروبات إرضاءً للسياح، كما انتهت من توسيع مطار الجزيرة بإنفاق مبلغ قيمته 250 مليون جنيه إسترليني، حسب تقارير إعلامية. وهذا يعني أن التفكير في الحد من أعداد الزائرين السياح القادمين إلى الجزيرة ليس وارداً في حساباتهم؛ إذ كلما زادت أعداد السياح ازداد مدخول خزانة حكومة الجزيرة المالي من الرسوم والضرائب. وهذا يعني أن صيف الغضب المايوركي سيكون طويلاً.