أحمد محمود عجاج
TT

انتخابات أميركا... ديمقراطية مريضة وعالم مهتز

استمع إلى المقالة

تتسمر العيون على شاشات التلفزة لمتابعة إدانة ترمب وكأنَّ ما يجري شيء لا يصدَّق. ولعلَّ اهتمامنا الحقيقي ينصب على ديمقراطيتها، وتأثيراتها على الحرية في العالم. والديمقراطية -مع الأسف- حسب تقرير منظمة «فريدوم هاوس»، في تراجع كبير على مدى 17 عاماً، والسبب انهيار نموذجها الغربي «المثالي». هذا النموذج الغربي أفقر الروس بعد تحررهم من النظام الشيوعي، وسرَّع انتشار الفساد والاهتراء المجتمعي في بقية البلدان الأخرى، بينما حقق نقيضه –في الصين مثلاً- الازدهار الاقتصادي والأمن الاجتماعي، وحمى التقاليد، وأصبح نموذجاً منافساً.

والمراقب للديمقراطية من حقه أن يتعجب لما وصلت إليه في موطنها الأميركي من تنافس قبائلي، وتناسٍ لقيم أخلاقية أساسية. هذا الانحدار يردُّه كثيرون إلى خلل في الديمقراطية، لكونها تُمكِّن عامة الناس -كما يقول أفلاطون- من أن يختاروا حاكمهم؛ والعامة ينقصها الوعي فتختار من يوهمها بأنه الأقدر، ومَنْ يَعِدُها بالأماني، وعندما يصل لا يحقق شيئاً منها. بعبارة أخرى: أفلاطون، ومعه معارضو الديمقراطية، يعدُّون الديمقراطية توصل الشعبوي إلى السلطة؛ والشعبوي أدواته تخويف الناس، والتشكيك في المؤسسات، وخلق أعداء غير حقيقيين، والإيهام بأنه الشخص الأقدر على حمايتهم وضمان مستقبلهم.

في الانتخابات الرئاسية الأميركية نرى ذلك جهاراً؛ أمامنا مرشح مدان بجرائم كثيرة. هذا المرشح -دونالد ترمب- أمامه فرصة كبيرة للوصول إلى سُدة الرئاسة؛ لأن استطلاعات الرأي تشير إلى ازدياد مستمر في نسب المؤيدين له، وارتفاع عدد المتبرعين لحملته.

لكن السؤال: لماذا يؤيدونه وهو مدان بهذه الجرائم، ويرونه مُخَلِّصاً؟ هل لأنَّ الديمقراطية -كما قال أفلاطون- تُسوِّي صوت الفيلسوف بصوت الجاهل، ولأن الفلاسفة قلة، فإن الناس تختار الأسوأ؟

أفلاطون شاهد بحُرقة نحرَ الديمقراطية الأثينية أستاذه سقراط العظيم، فأوصى بأن تكون السلطة للحكماء، ويُستبعد عامة الناس من عملية الاختيار؛ لكن حكمة أفلاطون نابعة من عاطفة شخصية، ولا تصلح للحكم على تجربة أميركا؛ لأن لها أسبابها الظاهرة، ومنها عجز المؤسسات الديمقراطية عن مواكبة المستجدات؛ فالكونغرس -مثلاً- تتمثل فيه الولايات بالتساوي على الرغم من تفاوت عدد السكان، وهذا يعني أن من ينتخبه مائة ناخب في ولاية، يساوي في التأثير من انتخبه مليون بولاية أخرى. هذا التفاوت يضرب التمثيل الديمقراطي في الصميم، ويعرقل القرارات، ويقدم مصالح فئة قليلة العدد على أخرى كبيرة. ولنأخذ قانون الانتخاب والتمويل مثالاً؛ حيث المؤثر ليس الناخب؛ إنما الأغنياء واللوبيات، وبالتالي من سيصل للبرلمان، سيمنح الأولوية للممول ولمصالحه من شركات أو مواقف سياسية.

والديمقراطية -في جوهرها- هي خدمة الشعب ورفع مستواه؛ لكن الناخب الأميركي يشعر بتردي اقتصاده، ويرى إغلاق مصانعه، ويشاهد نخبه تزداد ثراء على حسابه، لدرجة أن نسبة 1 في المائة تملك أكثر مما تملكه كل الطبقة الوسطى في أميركا، بينما طبقة الأجور المتدنية تملك نسبة 3 في المائة من الثروة. هذه وصفة خطيرة لتفتيت المجتمع، واختلال العدالة، وازدياد الطبقية، وانتشار روح العداء. في جو كهذا، يتمكن الشعبوي من إقناع الجماهير بأنه المُخَلِّص، وأنه يجسِّد -كما يجسِّد البرلمان في فكر الفيلسوف جاك روسو- إرادة الشعب المطلقة؛ وبتمثيله هذه الإرادة يتجاوز القضاء، ويشكك في نتائج الانتخابات، ويتخطى البرلمان وبقية المؤسسات. هذا ما فعله ترمب عندما وصف القاضي خوان ميرشان بالمستبد، والمدعي العام بالفاسد، وشكك في نزاهة القضاء وأجهزة الدولة. لم تعد المؤسسات الديمقراطية في خطابه محصنة ومهِيبة، إنما محل خلاف كبير بين الناخبين؛ وبغياب الثقة في القضاء لا يمكن لديمقراطية أن تنمو وتزدهر.

ما نراه في أميركا خطير؛ لأن الناس فقدت القدرة على المقارنة بين ترمب الماضي وترمب الحاضر؛ ففي خطاب التتويج لرئاسته عام 2017، وصَّف ترمب أميركا ببلد مصانعه مهجورة مثل المقابر، وبأن الجريمة منتشرة في شوارعه، والعصابات والمخدرات رائجة، ووعد الناخبين بأنه سيبعث أميركا من الموت، رافعاً شعار: «لنجعل أميركا عظيمة ثانية». لم تصبح أميركا عظيمة في عهده، ومع ذلك يكرر خطابه، ويُخوِّفُ الناخبين بأن حدودهم مشرعة أمام مهاجرين قتلة، ومختلين، وبشر من أراذل العالم، وأن من يحكمهم وصل لأرذل العمر. يقول ترمب ذلك بمواجهة أرقام وحقائق تشير لتحسن أوضاع البلاد في عهد بايدن، فلماذا ينحاز الناس إلى ترمب؟! الجواب: لأنهم غاضبون، ويرون نخبهم تسرق عرقهم، والمؤسسات ضدهم، والغرباء يأتون إلى أرضهم ليأخذوا وظائفهم، ويرون المستقبل قاتماً. في أميركا تلاشت الوسطية وحلت مكانها القبائلية: معنا أو ضدنا.

أميركا أمامها خياران: انتخاب ترمب، ومعه ستتحول الديمقراطية لديمقراطية شكلية، والعالم إلى مرحلة خطرة، أو انتخاب بايدن، فتلتقط الديمقراطية أنفاسها، ويرتاح العالم قليلاً، وليس كثيراً.