كنت في الرابعة عشرة من العمر حين التحقتُ بحلقة تدرّس كتاب «منية المريد في آداب المفيد والمستفيد». وموضوع الكتاب واضح من عنوانه، فهو يعالج أخلاقيات التعلم والتعامل بين التلميذ وأستاذه وعلاقتهما بعامة الناس، وما يتصل بالعلم من مواضيع. وقد توقفت عن الدرس بعد أشهر، لكن رسخ في ذهني تأكيد الأستاذ الربط بين العلم وتطبيقاته في الحياة اليومية. ولطالما كرَّر عبارة «كل علم لا ينتهي بعمل فهو لغو». وأذكر أن زميلاً كتب في تحريره اليومي كلمة «فضل» بدل «لغو» ومعناها «زائد عن الحاجة» فتوقف الأستاذ عندها، وأنفق بقية وقت الدرس في تأكيد أنه لغو وليس فضلاً.
تحوَّلت هذه الفكرة في ذهني إلى مسلّمة لا تقبل الشك، إلى أن زرت عالماً حكيماً في دمشق، فوجدته منخرطاً في النقاش مع شخص آخر يثير السؤال بعد السؤال. وكلما أجابه الحكيم ردَّ عليه مشيراً إلى نقطة ضعف في جوابه. وبقيت أستمع إلى هذا الجدل نحو ساعة، حتى طلب الرجل تأجيل النقاش إلى الغد، فقلت ضاحكاً: وما الفائدة من جدل لا نتيجة وراءه؟ فالواضح أن الرجل لا يسأل كي يتعلم، بل لمجرد الجدل. فأشاح الحكيم بوجهه، وأمرني بالحضور يوم غد أيضاً. فقادني الفضول للموافقة. وخرجت وأنا أضحك في سرِّي من هذا الجدل العقيم. في المساء جلست أسترجع مجريات اليوم، فوجدتُ نفسي راغباً في استذكار تفاصيل الجدل والنقاط التي أُثيرت فيه. فقررت الذهاب مبكراً في الغد لسؤال الحكيم عن سر هذا الجدل، فأجابني بكلام فحواه أنها طريقة في العلم وليست سراً. وحين حضر الرجل، وبدأ النقاش، وجدت نفسي منخرطاً فيه، بالإصغاء حيناً وطلب التوضيح حيناً آخر. وفي نهاية اليوم، فهمت أن قناعتي بفكرة «العلم للعمل» قد حوَّلتني إلى ما يشبه جهاز التسجيل، أقرأ وأقول للناس ما قرأت، ويسألني شخص عن شيء فأجيبه بما قرأته أو سمعته من أستاذي أو ما قلته مرات كثيرة من قبل، حتى لقد شعرت أحياناً بأن الإجابة عن الأسئلة لا تحتاج إلى تفكير أصلاً، لأن كل الأسئلة معروفة وكل الأجوبة عنها جاهزة.
النقاش الذي تابعته هذا اليوم، أظهر أن الكثير من قناعاتي، بل المسلّمات الراسخة في ذهني، ضعيفة أمام النقد، وبعضها لا يقوم على برهان منطقي. لقد آمنت بها لأنني لم أعرف غيرها، ولأنني لم أواجه من يجادلها مثلما حصل اليوم.
التقيت الحكيم بعد ذلك بسنتين أو ثلاث، فسألني عن تلك الجلسة فأخبرته أنها كانت حجر زاوية في رؤيتي للأشياء. ثم سألته عن السبب الذي يجعل شخصاً مثلي يحشو ذهنه بالثوابت والمسلّمات، فأجابني بأن السبب هو الافتقار إلى البرج العاجي، وذكَّرني بقصة العلاقة بين العلم والعمل التي درستها في سنين الصبا. ثم قال إن التركيز على تلك العلاقة، يؤدي إلى انفعال النفس بالعلم القليل الذي نتعلمه، فنتبناه لا بوصفه معرفة عامة، بل على أنه شيء يخصّنا، ينتمي إلينا وننتمي إليه، فندافع عنه كما ندافع عن حقوقنا الشخصية وأملاكنا الخاصة، ونتعامل معه على أنه معيار للقرب والبعد والصداقة والعداوة، بيننا وبين الآخرين.
قال لي ذلك الحكيم إن اكتساب المعرفة العالية شرطُه الفصل بين العلم والعمل، والانغماس في العلم لذاته، والتفكير المتحرر من أي قيد ديني أو آيديولوجي، شخصي أو اجتماعي أو طبقيّ أو غيره، أي أن تلتحق بجماعة «الأبراج العاجية» الذين لا يهمهم شيء سوى التوصل إلى فكرة، مفيدة أو غير مفيدة، ولا يتركون هذا حتى لو قامت الدنيا ولم تقعد. هنا سوف تدرك عيوب أفكارك وتجادل قناعاتك، حتى لو لم تتخلَّ عنها. المهم أنك أمسيت عارفاً بما هو فكرة وما هو عاطفة. وذلك جوهر العلم.