قارن الإعلامُ بين مظاهرات حرب فيتنام ومظاهرات حرب غزة. وهي مقارنة مفهومة، إذ لا يخلو الحدثان من أوجه للشبه، مثل الحاضنة الجامعية، ومشاهد المواجهات مع الشرطة الأميركية، والحماسة والتغطية الإعلامية العالمية.
كانت حرب فيتنام حرباً أميركية، بجنود أميركيين. منحتها المظاهراتُ والانسحابُ الأميركي رسوخاً في الذاكرة عن غيرها، فصرنا نفكر فيها وكأنَّها حرب معزولة منفصلة. لكنَّها لم تكن إلا حلقة في سلسلة طويلة من الصراع في شرق آسيا، أرهقت المواطن الأميركي، الذي رأى أنَّه تحمَّلها وحده دون الحلفاء. كما أنَّها تزامنت مع تصاعد تحقيقات ووترجيت وزيادة الضغط على نيكسون.
تجمَّعت هذه العوامل لتجعل مظاهرات رفض الحرب في فيتنام شأناً أميركياً بامتياز، فكانت المظاهرات واضحة الغرض، والمطالب، ويمكن تلخيصها في جملة قصيرة مفهومة للمواطن العادي: «أعيدوا أبناءنا إلى الوطن». مطلب يمكن للإدارة الأميركية تنفيذه إن أرادت. وقد فعلت بموجب اتفاق باريس.
أما حرب غزة، وعلى الرغم من العلاقات الوثيقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فإن القرار فيها ليس أميركياً. تستطيع أميركا أن تضغط، أن تمنع الذخائر عن إسرائيل، أو أن تتوقَّف عن استخدام الفيتو في قرارات إدانة في مجلس الأمن. لكنَّها لا تستطيع لا إصدار أمر انسحاب للجنود الإسرائيليين، ولا إعادة الرهائن الذين اختطفتهم «حماس».
وبالتالي كان لزاماً على مظاهرات غزة أن تقدّم مطالبَ تميزها. هنا نشأت أولى مشاكلها، وسأركز على جامعة كولومبيا صاحبة المظاهرات الأشهر. مطالبة جامعة أميركية نيويوركية، حرمُها الجامعي في مانهاتن، بأن تتوقَّف عن التعاون مع إسرائيل، يشبه مطالبة حي العرب في لندن بأن يقطع صلاته بالخليج العربي.
يعلم الجميع أنَّ قراراً كهذا يحمل إدانة لإسرائيل في مواجهة جماعة تعتبرها الولايات المتحدة إرهابية. وأنَّ الجامعة، ولا سيما كولومبيا، لا تمكنها الاستجابة لهذه النوعية من المطالب. ولا تستطيع الانحياز إلى فئة واحدة من طلابها.
وهنا ننتقل إلى المشكلة الثانية: أي فئة من الطلاب؟
قلنا إنَّ مظاهرات فيتنام كانت خاصة بحربٍ الولاياتُ المتحدة طرف فيها. لم تكن منظمة من قبل «فيتناميين» يعيشون في واشنطن. بل من أميركيين يحملون سمتاً أميركياً. من هنا نجح الطلاب في إقناع قطاع أوسع من الأميركيين بأنَّ ما يفعلونه لمصلحة أميركا. على اعتبار أنَّ المشاركة في حرب بعيدة خسارة للأرواح والأموال بلا طائل.
مظاهرات غزة فيها خليط من الطلاب، لكن الصوت الأبرز فيها لمواطنين يعتبرون أنفسهم امتداداً لغزة، بدوافع دينية أو قومية. هل في هذا مشكلة؟ أبداً. من حقهم التعبير عن أنفسهم. لكن هذا خطأ إعلامي. أدَّى إلى خطأ سياسي يحتاج كثيراً من التفصيل، ملخصه أنَّه استعدى مواطنين أميركيين كان ممكناً أن يبقوا على الحياد.
سمتُ الملثم الفلسطيني، وشعاراتُ «النهر إلى البحر» التي تستدعي فكرة «الحل النهائي»، وتستدعي عقدة الذنب الغربية نحو خذلان اليهود في الحرب العالمية، وحرقُ علم أميركي هنا أو هناك، أو إنزالُ علم أميركي لرفع علم فلسطيني، ربما يمر مروراً عابراً على مواطن شرق أوسطي. لكنه يذكر المواطن الأميركي برافعي شعار الموت لأميركا. ويحول قضية فلسطين إلى استقطاب داخلي، إلى معركة عض أصابع مع «الشعور الوطني» الأميركي.
حين تَجْمَع مفردات هذه المشكلة تفهم حرج موقف الجامعات بين فئات الطلاب المختلفة، وبين الجهات التمويلية، وبين التجاذبات السياسية. أي قرار جامعي يغفل هذه القوى سيكون مصيره التلاشي بعد خمس دقائق من صدوره.
المتظاهرون، سواء كانوا مدفوعين بحماسة دينية قومية، أو مدفوعين بنقمة آيديولوجية، تجاهلوا تلك العوامل ولجأوا إلى التصعيد بدلاً من التفهم. فضَّلوا إرضاء رغبتهم الكيدية على التفكير المنضبط بمصلحة القضية التي يرفعونها. فظهروا بمظهر من يريد ارتهان مستقبل الطلاب بالاستجابة لمطالبهم بغض النظر.
كما لجأوا إلى تكتيك آخر غريب. قيادة حملة موجهة إلى الشرق الأوسط ضد نعمت شفيق، مديرة الجامعة ذات الأصول المصرية، التي كانت تتعرَّض بالفعل إلى حملة من اللوبي المؤيد لإسرائيل تتَّهمها بمحاباة أنصار «حماس» والتهاون معهم، وطالبوها بالاستقالة. والآن طالبتها حملة مؤيدي غزة أيضاً بالاستقالة. وهنا نتوقف لنسأل.
ماذا لو استجابت واستقالت؟ في الواقع سيعتبر هذا انتصاراً لداعمي إسرائيل، الذين سبقوا المتظاهرين بكثير في الضغط من أجل هذا الغرض. وسيأتي شخص جديد لن يستطيع أيضاً تجاهل تلك التجاذبات. وبالنظر إلى خريطة داعمي الجامعة، وإلى تصريحات رئيس مجلس النواب في زيارته إلى حرمها، فغالباً سيكون أكثر حسماً في رفضه المظاهرات. لكن المتظاهرين أرادوا انتصاراً سهلاً يبيعونه لجمهورهم. وبقوة الدفع الذاتي ساروا إلى غرض إضافي.
الأصل المصري لمديرة الجامعة يحقق لهم غرض الاستمرار في حملتهم على مصر نفسها. ويحقق لهم غرض شيطنة أي شخصية بارزة لا تنتمي إليهم. طيب. ما علاقة هذا بغزة؟
لا علاقة له بها. بل إن تجاوزات المظاهرات قدمت ذخيرة وافرة للاتجاهات التي تعادي المسلمين وتحذر من خطرهم. وهذا - على عكس ما يبدو - أحد الأغراض التي تسعى الجماعات الإسلامية المتشددة سعياً حثيثاً نحوه، وتعلن ذلك صراحة، لتجييش المسلمين العاديين، وإشعارهم أن حمايتهم مربوطة بانضوائهم تحت الكتلة التي يتحكمون فيها.
لم يتوقف جمهور الشرق الأوسط ليسأل نفسه لماذا، بعيداً عن جامعة كولومبيا ونعمت شفيق، رأينا الشرطة تتدخَّل بالقوة لفض الاعتصامات في تكساس وفي أمستردام، والأخيرة مشهورة بحرياتها. إن أردت الإجابة فأعد قراءة المقال. لقد استخدم المتشددون مسواك فلسطين مرة أخرى لتحقيق أغراض جانبية، أوسع من أغراض حسني النية الذين أرادوا تقديم عون إلى أهل غزة.