المشهد العربي فيه الكثير الذي لا يسر، وفي المقدمة تأتي حرب غزة الخامسة بكل ما فيها من إبادة وعنف وتهديد بأشكال مختلفة من النكبات، والأكثر خطورة تحول الفاجعة إلى حرب إقليمية مروعة. ولكن حرب غزة ليست كل المشهد وإن كانت مقدمته بكل ما كان للقضية الفلسطينية من وجود تاريخي، وربما كان لوضعها «الجيوسياسي» في قلب الإقليم العربي حساسية وأولوية خاصة.
وإذا كانت الدماء والتشريد والهجرة والدمار بأشكاله المختلفة تمثل شهادة على التدهور القاسي للأوضاع، فإن الظاهرة شائعة بقوة في السودان، حيث توجد أكبر شهادة على سخافة أوضاع نجمت عن انشقاق في الجيش الوطني. حزمة الأوضاع المأساوية تظل كما هي من دون تغيير، وتاريخياً وفي إطار النزاعات المقارنة، فإن المأساة السودانية سواء كانت في الجنوب أو في دارفور أو في مناطق أخرى، كانت دائماً من حيث الأرقام على قمة منازعات وصراعات الإقليم. دفع السودان ثمناً إضافياً بانقسامه إلى دولتين، ما لبث أن عرفت كلتاهما حروباً أهلية خاصة متقطعة كانت أو مستمرة. المشاهد السورية واليمنية من منتجات ما سمي «الربيع العربي» عرفت مئات الألوف من القتلى والجرحى، والمدن المدمرة، والتدخلات الإقليمية والدولية والكثير من الموجات الإرهابية الظاهرة والكامنة. وفي الفترة الزمنية الأخيرة استقرت الشواهد في دول عربية على تحولها إلى ميليشيات تتحدث باسمها، وتمارس حرباً، مثل الحوثيين ضد الملاحة والتجارة العالمية.
لا توجد وصفة أو طريقة علمية لتحليل المشهد وفك ألغازه، إلا من خلال مراجعة الفشل الذي طرأ على الدولة العربية المعاصرة، التي بعد حصولها على الاستقلال لم تعد تعرف ماذا سوف تفعل بهذه الحالة التي نالت فيها الحرية واستقلال القرار بعيداً من الدولة الاستعمارية، أو بعد تغيير نظم الحكم «الرجعية»، أو أياً ما كان سبب التخلف والاستعباد الماضي. المراجعة تفضي إلى غياب مشروع وطني إصلاحي يقوم ببناء الدولة بمؤسساتها، وتغذية هويتها الوطنية، وإقامة اقتصاد، وتنمية إقليم الدولة، وتوفير القدر الأكبر للمشاركة من قبل الأجيال الجديدة التي بالنسبة لها كان الاستعمار ذكرى قديمة. ومع هذا الغياب فإن التعلق بالحالة الصراعية مع الاستعمار واستمرارها تحت مسميات الغرب أو «العولمة» أو «الاستعمار الجديد»، وفي أوقات كثيرة الأسر داخل دائرة الصراع العربي الإسرائيلي، حيث لا فكاك ولا خلاص، وبالتأكيد لا نصر ولا هزيمة وإنما استمرار حالة اللاحرب واللاسلم. الطريقة الممكنة لفهم ما يجري تتم من خلال المقارنة ما بين الدول التي دخلت إلى شباك عنكبوت العنف الأهلي والتدهور المؤسسي والشفقة الدولية، والدول التي حافظت على بقائها بوصفها دولة؛ وما لا يقل أهمية أنه بعد البقاء شرعت في عمليات إصلاحية واسعة النطاق خلال السنوات العشر الأخيرة لم يكن متصوراً حدوثها من قبلُ.
«التجربة المصرية» تُقدّم مسارات كثيرة للتفكير لما وصلنا إليه الآن من بدايةٍ للإصلاح، فمن ناحية فإن مصر توافرت لها كل مقومات الدولة (شعب كونته رابطة النيل، وأرض لا تزال حدودها الحالية كما كانت لم تتغير، وسلطة مركزية لم تفلت منها حرب أهلية) منذ أزمنة سحيقة جاءتها فيها وذهبت غزوات استعمارية ذاب بعضها في الداخل، وجاء وقت رحيلها إلى حيث جاءت. الدولة المصرية الحديثة كما هو مؤرخ، بدأت مع محمد علي، وعلى مدى القرن التاسع عشر زادت كل مقومات الدولة، وزادت قيمتها الاستراتيجية مع شق قناة السويس، وربما كان الأهم من ذلك كله أن بعثات والي مصر إلى الخارج خصوصاً 324 مبعوثاً شكّلت النواة الأولى لنخبة مصر المعاصرة التي تراوحت ما بين الراديكالية الثورية، والإصلاح التدريجي والتراكمي.
لا توجد نية هنا لسرد التاريخ المصري، وإنما التأكيد على أن التوتر والجدلية كانا قائمين بين تيارات راديكالية (دينية أو يسارية أو ليبرالية) ترغب في تغييرات جذرية، وتيارات أخرى إصلاحية تريد البناء والتراكم التدريجي، وكلاهما كان موجوداً طوال القرن العشرين.
وعندما حل القرن الحادي والعشرون ظهرت معالم عدم الاستقرار، وفي مصر وحدها كان عدد مرات وأشكال الاحتجاج الجارية في عام 2004 حوالي 222، وقفزت إلى 690 في عام 2009، وفي 2010 بلغ متوسط الحركات الاحتجاجية خمسة يومياً. وهكذا لم تكن الثورة بعيدة منطقياً، ولكن التعامل معها جرى وفق منهجين، أحدهما إصلاحي والآخر محافظ. كان الإصلاحيون يرون أنه من الممكن تفادي الثورة إذا ما سبقت السلطات الحاكمة «منحنى» الغضب المتراكم من خلال إصلاحات جدية سياسية واقتصادية، ووجود مشروع وطني متكامل لبناء الدولة من جديد. المحافظون على العكس تراوحوا ما بين بقاء الأوضاع القائمة على ما هي عليه، وما بين الثورة التي حدثت بالفعل وانتهت إلى تسليم البلاد إلى «الإخوان المسلمين» الذين كانوا يريدون دولة إيرانية الطابع. ما حدث بعد ذلك كان ربما أسرع انهيار لدولة «الإخوان» بعد عام واحد، وكان ذلك راجعاً لثورة شعبية كاسحة، والدور المهم الذي تلعبه القوات المسلحة في الدولة المصرية عبر قرنين. صمدت أعمدة الدولة ومنعت ما جرى في بلدان أخرى حيث الحروب الأهلية الأبدية، وأحياناً العجز عن قيام الدولة من الأصل كما حدث في الحالة الفلسطينية. السنوات العشر الماضية شهدت أولاً تثبيت أركان الدولة ومؤسساتها وآلياتها، وثانياً ظهور المشروع الوطني المصري، وتطبيقه وتنفيذه من خلال «رؤية مصر 2030»، هذا المشروع الذي نقل مصر تدريجياً من النهر إلى البحر في نقلة ثورية بامتياز، وثالثاً مواجهة أزمات الإرهاب، و«كورونا»، والآثار الاقتصادية للحروب الإقليمية والدولية. كان لدى مصر مخزون هائل من الهوية الوطنية، وتقاليد الدولة، و«المشروع الوطني»، ما يكفي ليس فقط لإنقاذ الدولة في لحظات الضغط والتفكيك والانقسام... وكلها تشكل الشروط التي تحتاجها الدول العربية وتحافظ عليها.