سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

تحية إلى جاستن ترودو

أراد رئيس الوزراء الكندي الجديد جاستن ترودو أن يحسّن صورة كندا في العالم، ويعيد لها ألقها السابق، واستطاع أن يحقق لبلاده قفزة نوعية، خلال أيام فقط.
ويتحدث العرب عن تلميع صورتهم منذ انفجار البرجين الشهيرين في نيويورك عام 2001، ولا تزال سمعتهم بعد 14 عامًا، تتهاوى إلى حضيض، لا قرار له، لم تنفع معه مؤتمرات، ولا اجتماعات ولا كتب كثيرة دبجوها، في غياب أي فعل حاسم.
بحكومتها الجديدة، انتصرت كندا، على الخوف والعنصرية والإرهاب معًا. ففي الوقت الذي ينحدر به العالم صوب التطرف والتزمت، يسبح الكنديون عكس التيار. انتخبوا التيار الليبرالي المنفتح، وأخرجوا المحافظين من السلطة بعد تسع سنوات من الحكم. صورة رئيس الوزراء الشاب، مع عائلته الصغيرة، محاطًا بأطفاله الثلاثة وزوجته، تنعش الإحساس بالدفء العائلي. وجوه وزرائه الذين أرادهم مناصفة نساء ورجالاً توحي بالعدالة التي نادرًا ما تتحقق. وجود أجناس وأعراق ومهاجرين غالبيتهم جدد في البلاد، ومشاركة معاقين في الوزارات، يبعث على الإحساس، ولو المخادع، أن كندا بلد يحتضن مواطنيه ويقدّر إمكاناتهم، أيًا كانت أصولهم وألوانهم وصعوباتهم الصحية.
ثمة قرارات قمعية اتخذها المحافظون، انتهت اليوم ومن دون ثرثرة وخطابات فارغة، الحق في المعلومات، إنهاء تكميم أفواه العلماء في الحديث عن أبحاثهم، العودة عن بعض الإجراءات المضرة بالبيئة، استعادة كندا صفتها كبلد يؤوى لاجئين بالترحيب بـ25 ألف مهاجر سوري، في الشهرين المقبلين، وقبل نهاية العام، مما سيضطر القوى العسكرية للمساعدة في نقل وترتيب أوضاع الوافدين الجدد.
يحق لكندا التي رصدت 130 من مواطنيها ذهبوا إلى سوريا والعراق، للالتحاق بالمتطرفين، عاد منهم 80، أن تخشى على نفسها. من حقها أيضًا أن تشدد إجراءاتها بعد أن وصل الإرهاب لأول مرة في تاريخها إلى برلمانها ومعقل ديمقراطيتها الأثيرة، وهاجم قواها العسكرية. مع ذلك تفتح البلاد أبوابها من جديد لمجموعات لا تشبهها دينًا أو ثقافة، تخفف من إجراءاتها لحظة ينحو الآخرون صوب إغلاق الحدود وبناء الجدران العازلة. عندما سئل رئيس الوزراء الجديد والمتحمس جاستن ترودو عن سبب اختياره حكومته بهذه المواصفات النادرة، قال إنه يريدها على صورة كندا وتليق بعام 2015. للتذكير فقط ثمة بين النواب الذين انتخبوا في كندا، مؤخرًا، أربعة لبنانيين، كلهم ولدوا في لبنان، ولو بقوا في أوطانهم، لحفيت أقدامهم قبل أن تعطى لهم وظيفة تليق بجهودهم، بينهم ممرضة تخرجت وعملت في الجامعة الأميركية. والأربعة جل ما استطاعه لبنان لهم بعد فوزهم، تهنئة من القلب من وزير الخارجية جبران باسيل الذي عبر، مشكورًا، عن «اعتزازه بتبوئهم هذه المناصب القيادية في بلدان انتشارهم» وتفاءل بأن «يلقاهم في المؤتمر الاغترابي» الذي تنظمه الوزارة دوريًا.
بين الوزراء مسلمة محجبة مولودة في أفغانستان وصلت إلى كندا منذ عشرين سنة فقط إثر فقدها والدها، حيث ارتحلت مع والدتها وأخواتها الثلاث إلى إيران وسوريا قبل أن تجد بلدًا يؤويها. وضابط سيخي، يعتد بأصوله البنجابية، الهندية، استحق لخدماته المميزة في الجيش أن يصبح وزيرًا للدفاع. وفي الحكومة اليوم سائق حافلة لنقل الركاب، بنجابي الأصل وسيخي أيضًا، كان قد انتخب رئيسًا لبلدية منطقته فأصبح وزيرًا للبنى التحتية، وسيدة ولدت شبه ضريرة استطاعت أن تكمل تعليمها الجامعي، وتنال ميداليات بطولة في السباحة صارت وزيرة للرياضة والمعاقين، بينما شخص آخر على كرسي متحرك، نتيجة حادث إطلاق رصاص شلّ نصفه الأسفل استحق تعيينه وزيرًا للمحاربين القدامى. قصص النجاحات تمثلت كما يجب بوجهها السعيد والحزين، وأول رائد فضاء كندي عين، هذه المرة، وزيرًا للنقل، عله ينقل الكنديين إلى فضاءات أرحب. ولم ينس ترودو أهل البلاد الأصليين في وزارته، فاختار لهم اثنين من أكبر المنافحين عن حقوقهم، ولم يهمل الشبان أو كبار السن. الجميع ممثلون في الحكم، وهو سيبقى يصغي لمواطنيه ويحاول أن يجيب عن أسئلتهم، ويتعاون معهم، ليتأكد «أن العمل جار لبناء المستقبل بشكل أفضل للأجيال المقبلة».
كل شخص عيّن في حكومة ترودو، له قصة تستحق أن تروى، ومسار نضالي، يجعل منه رمزًا وهو يمثل الجماعة التي يشبهها أو يتحدر منها. كل وزير تقريبًا، له تاريخ ما، في المجال الإنساني أو الأعمال الخيرية والتطوعية.
ما فعله رئيس الوزراء الكندي الجديد، منطقي وذكي ومدروس ويستحق أن يحتذى. ليس في اختيارات الشاب الطموح عبقرية لم يفطن إليها أحد في بلاد العرب الفسيفسائية التكوين والمتعددة المذاهب. الوعي كبير بأن المجموعات الثقافية والدينية داخل المنطقة العربية كثيرة، ضمن الشعب الواحد، ومع ذلك فإن الاختيارات، لا تبنى إلا على المحسوبية والعشائرية، وشد عضد القوي على حساب الضعيف ومهيض الجناح.
تحسين الصورة، لا يحتاج خطابات ونظريات، وإنما قوانين وإرادات وحسن نيات، وتخفيفا لسياسات الكيد والثأرية التي لا تنفع إلا في فتح أبواب جهنم التي باتت تلتهم الجميع، ولا تفرق بين رئيس ومرؤوس.