كيف تحوَّلت السوق إلى منافس للناخب، بل إلى متغوّل عليه بعدما كانت مُسيَّرة لخدمته؟ وما تبعات هذه المنافسة على الديمقراطية في الغرب وخارجه. يكمن الجواب في دراسة النشأة التاريخية لليبرالية والتحولات التي مرَّت بها، ثم استجلاء الأعراض ومعالجتها. تاريخياً، ظهرت الليبرالية في القارة الأوروبية بوصفها تياراً سياسياً في أوائل القرن التاسع عشر، وبالتحديد على يد مجموعة في بريطانيا تسمى Whigs طالبت بأمرين: حرية التفكير والتسامح. هذه المجموعة رأت أنه لكي يتطور المجتمع، ويُحصن نفسه من التناحر، لا بد من الاعتراف بأن لا أحد من أفراده أو مجموعاته يملك الحقيقة للإجابة عن سؤال: ما هو أفضل نظام حياة؟ هذا التساؤل بذاته مثّل تحدياً لسلطة الكنيسة لأنها هي التي تحدد العيش الأفضل، ومن يعترض عليها يكون العقاب بانتظاره على يد السلطة المتحالفة مع الكنيسة؛ لذلك ردت الليبرالية باستقدام مبدأين مهمين: التسامح ورفض التكلس الاجتماعي. فالتسامح معناه الاعتراف بالاختلاف وعدم إجبار الآخر على رأيك، وهذا يمثل هجوماً مبطناً على الكنيسة وعلى الدولة المتحالفة معها. كذلك يعني التكلس الاجتماعي أن الألقاب الاجتماعية هي التي تحدد موقعك في المجتمع ومن وراء ذلك تمنحك القوة الاقتصادية؛ فإذا كان لديك مال وفير أو عقارات فإنَّها تمنحك وضعاً اجتماعياً مميزاً، وتوفر لك فرصاً إضافية لزيادة رصيدك المالي وتحصين المكانة الاجتماعية. هذه التركيبة مكنت الطبقة المتسيدة (الأرستقراطية) من توريث قدراتها الاقتصادية والاجتماعية لأبنائها حرصاً على استمراريتها، ولتحول دون دخول غرباء إليها ولو حازوا المال، لأنَّ السوق هي أساساً مرسومة بطريقة تضمن للطبقة المتسيّدة أن يكون التنافس الاقتصادي مائلاً لصالحها وليس للمنافسة العادلة المُنمّية للإنتاج؛ هكذا تكرس التميز: إذا وُلدت نبيلاً أو لورداً فستبقى هكذا كما لو وُلدت عاملاً أو أجيراً.
وممَّا عزَّز ظهور الليبرالية عوامل أخرى أهمها الحروب الدينية في أوروبا (حرب الثلاثين عاماً) وما رافقها من إصلاحات دينية، وأبرزها ترجمة الإنجيل وجعله متداولاً بين طبقات شعبية لم يكن لديها اطلاع عليه، ولا تعرف كلام الله إلا عبر رجال الدين؛ هذا أعطى الفرصة لكثيرين أن يقرأوا ويفكروا ويُحكِّموا ضميرهم الذاتي بمعزل عن التوجه الإرشادي الديني المتمثل بالكنيسة. ولعل الإصلاحيين لوثر وكالفن ساهما في نشر الليبرالية وإن كانا لا يريدانها عبر تركيزهما على الضمير الديني وأن الإنسان عليه أن يُحكِّمه من خلال فهمه للنصوص الدينية، وبهذا حدث فراق خطير بين الفرد والكنيسة التي لم تعد وحدها المحدد لخلاص الإنسان على الأقل دنيوياً. وقد أدت الحروب الدينية كذلك دوراً في قيام ما يسمى الدولة «الترابية القومية» التي لها حدود وتصوّرٌ قومي أو ديني؛ فقد أدى الاقتتال الكاثوليكي البروتستانتي إلى بحور من دماء، وإلى انتقال أقليات كاثوليكية من بقع فيها أكثرية بروتستانتية إلى بقع أخرى فيها أغلبية كاثوليكية، وكذلك فعل البروتستانت، وبهذا أصبحت على الأرض بقع سكانية متجانسة أكثر، داخل بقعة ترابية قومية، وكان الحل، لهذا التحول، أن مَنْ يحكم (الأمير) بقعة ترابية يجب أن يكون مذهبياً من صنف الأكثرية، ومن لا يعجبه ذلك من ديانة أخرى فعليه أن يذهب إلى بقعة يحكمها أمير من مذهبه أو يبقى ويرضى بحكم الأكثرية المختلفة دينياً. هذا الفصل الديني كان باعثه أيضاً اقتصادياً لأن التجارة بين أمراء أوروبا كانت تتطلب وجود سلام وأمن، وهذه الكيانات الترابية القومية وفرتهما وأنهت الاقتتال المذهبي. وبسبب هذا التطور كان طبيعياً بروز طبقات مُتدنِّية في السلم الاجتماعي في عالم التجارة، والمهن، وكدست ثروات مهمة، وبالتالي أصبحت لديها طموحات بكسر التكلس الاجتماعي، المعرقل لها اقتصادياً؛ فالسائد آنذاك تمتع الطبقات الأرستقراطية بمزايا قانونية تمنحها قدرة أكبر على المنافسة مع الآخرين من الطبقات الأقل اجتماعياً، وبالتالي فإن المتذمرين طالبوا بإزالة هذه الامتيازات القانونية الاقتصادية الجائرة، ومن خلالها أرادوا إسقاط الطبقية الاجتماعية، ثم الانتقال إلى المشاركة في السلطة، ورسم تشريعاتها.
هنا نجد أنَّ المجتمع قد تغير، وبالتالي كان محتماً أن تتغيَّر أفكاره ونظمه، وعليه فإنَّ الليبرالية بمبدأيها التسامح وكسر التكلس الاجتماعي، مثَّلت أرضية صالحة لقيام مجتمع جديد مختلف. ولكي ندخل في التفاصيل، من المهم الإشارة فقط إلى أنَّ المفكر جون لوك في أطروحته عن التسامح كان من السبَّاقين إلى ترسيخ الفكرة الليبرالية بقوله إنَّه لا بد من أجل استقرار المجتمع أن تكون فيه مساحة للشأن الخاص وأخرى للشأن العام؛ ففي قضايا الحريات الشخصية المتعلقة بالتفكير والاعتقاد لا يمكن للدولة، أي الحكومة، أن تتدخل في الشأن الخاص للأفراد، لأنَّ الإنسان حر في أن يختار أسلوب حياته وكيف يعيش، وعلى الحكومة أن تكرس جهودها للشأن العام الذي هو الميدان الذي يتشارك فيه الجميع من أجل حصد المنافع وتجنب الأضرار. فالحكومة لا يمكنها أن تتدخل في الشأن الخاص إلا إذا كانت ممارسة الإنسان لما يقع في الحيز الخاص به تهدد نظام الأمن والسلام، أي النظام العام. كما أكد لوك في أطروحة أخرى أن الحكومة لا يمكنها أن تحكم بسلطة مطلقة، بل لا بد لها من موافقة الناس، ولكيلا تتغول على الناس لا بد من قيود قانونية تضمن لهم حقوقهم؛ هذا يعني أن الحكومة يجب أن تقيّد بدستور هدفه الأساس حماية حق الملكية، وحق الحياة، والحرية. هذه الحقوق تمثل هدماً لهيمنة الكنيسة ولمبدأ التكلس الاجتماعي لضمانها المساواة للجميع. هذه المساواة كانت مفتاحاً لرسم دور محدد للدولة تكون فيه لاعباً حيادياً في الاقتصاد، وإيجابياً في المجتمع. هكذا انتقلت الدولة نظرياً من خدمة طبقة دينية واجتماعية معينة إلى خدمة المجتمع بكل طبقاته، وأصبحت مجبرة على الالتزام بالحقوق الشخصية والمنافع الاجتماعية. (يتبع)